الأمن القومي العربي وتحدياته في الوقت الراهن

يشهد المجتمع العربي الراهن تحديات اقتصادية واجتماعية متعددة الأشكال تندرج في مجملها فيما يسمى في الوقت الراهن بحروب الجيل الرابع التي تستهدف من حيث المبدأ تفكيك وحدة البنية الاجتماعية وتحويل مكوناتها من تنوعات قائمة على التضافر والتعاون إلى تنوعات قائمة على أشكال مختلفة من الصراع والتناقض، والتعاون مع بعض مكونات المجتمع في سياق حربها على المكونات الأخرى، مما يعظم من النتائج الكارثية لهذا النوع من أنواع الحروب والصراعات ويسهم في توفير الشروط المناسبة للقوى المنظمة لهذه الحرب على المستوى الخارجي، ويساعدها في تحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخل البلدان المستهدفة نفسها.
أولاً. الإطار لتحليل لفهم مهددات الأمن في الجماعات الإنسانية المختلفة.
يقوم الإطار التحليلي لفهم محددات الأمن في الجماعات الإنسانية المختلفة على مجموعة من العناصر التي يمكن إيجازها على النحو الآتي:
1.    حتمية الصراع بين مجموعات البشر على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كافة، وتتجلى هذه الحقيقة في التاريخ الإنساني والواقع الراهن بأشكال مختلفة، ونماذج متعددة، فالحروب والصراعات والفتن جزء لا يتجزأ من تاريخ الإنسان، ولا يمكن تصور المجتمع دون صراعات، وحتى في المراحل التي كانت تحمل في مضامينها قيما إنسانية وأخلاقية، كانت تنطوي أيضا على أشكال مختلفة من الصراع المبطن تارة، والعلني تارة أخرى، مما يدل على سيادة القيم الأخلاقية والإنسانية لم يمنع من نشوب الحرب، وأن الكثير من أبناء البشر كانوا يتظاهرون بالقيم الأخلاقية ويبطون في وعيهم أشكال مختلفة من الحقد واللؤم.
2.     تستمد أية مجموعة بشرية قدرتها على توفير حاجاتها الأساسية لأبنائها من قوة التضامن الاجتماعي بين مكوناتها، ويتجلى ذلك في مقدار استيعاب كل فرد من أفرادها لمصلحة الجماعة في وعيه ومستويات إدراكه، ففي سياق الصراعات بين القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يلاحظ أن قدرة أية جماعة على تحقيق أهدافها وحماية أبنائها إنما هي رهن بما بين مكوناتها من عوامل التضامن والترابط، بصرف النظر عن مصداقية هذا الترابط وصحته، فقد يتوافق أفراد مجموعة اجتماعية معينة على فكرة باطلة، وبرغم ذلك فإن قوة الارتباط بينهم تمنح كل منهم قوة تأتي نتاجا كيفيا لبنية المجموع.
3.    لا توجد جماعة اجتماعية في التاريخ الإنساني استطاعت أن تكون قائمة بذاتها، فالعامل الثاني من عوامل القوة يكمن في ارتباط الجماعة مع جماعات أخرى تبادلها المنافع والخيرات، فتقدم لغيرها ما يحتاجون إليه من عوامل القوة، وتستمد منهم ما تحتاج إليه من  عوامل القوة أيضا، وسرعان ما يصبح تضامنها مع الجماعات المماثلة لها في شروطها وأوضاعها مصدر جديد تستعين به على ما يهددها من تحديات طبيعية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، بالإضافة إلى ما تتمتع من قوة داخلية كانت نتاجا لمستويات تضامنها الداخلي.
4.    شكل العامل الثقافي (الفهم ومستوى الوعي) عامل الترابط الأساسي بالنسبة إلى الجماعة على المستويين الداخلي، والعامل الأساسي لتحالفات الجماعة مع الجماعات الأخرى، فإذا ما جاءت مستويات الوعي بالأخطار التي تهدد كل فرد من أفراد الجماعة متقاربة بينهم، كانت أشكال ترابطهم قوية، واندفع كل منهم إلى حماية الارتباط، حتى مع تنازله عن بعض حقوقه أو كلها أحيانا، وفي حال غياب الوعي بالأخطار المحيطة، وتعدد اتجاهات الرأي العام حولها، فمن الطبيعي أن تظهر ملامح الانقسام والتشتت، وتصبح الجماعة غير قادرة على تحقيق أهدافها، مما يجعلها عرضة لخطر الجماعات الأخرى التي تترصد ملامح الضعف فيها حتى تتمكن من السيطرة عليها، ودمجها في مصالحها الذاتية.
5.    تنقسم الجماعة الإنسانية الواحدة دائما إلى ثلاثة مجموعات فرعية، بحكم الفروق الفردية بين مكونات الجماعة، فالعامل الثقافي لا يمكن أن يكون متطابقا بين مكونات الجماعة كلها، بل يأتي متباينا بحكم خصوصية التنشئة الاجتماعية لكل فرد من أفرادها، مما يجعل الأفراد متباينون في مستويات وعيهم بالأخطار التي تهدد الجماعة من جهة، ومتباينون في اتجاهاتهم القيمية نحو وحدة الجماعة من جهة ثانية، فتأتي المجموعة الأولى على مستوى رفيع من الوعي، وتملك القدرة على التضحية بنفسها من أجل الجماعة، وتميل الثانية إلى تغليب مصالحها على مصالح الجماعة، بينما تتبعثر المجموعة الثالثة بين المجموعتين السابقتين.
6.    يعد التظاهر بالمحافظة على القيم الإنسانية والأخلاقية واحدا من أكثر العوامل التي يتم توظيفها في الصراعات الاجتماعية بين المجموعات الاجتماعية على المستوى الداخلي، وبين الجماعات الخارجية على المستوى السياسي والخارجي، فإذا كان تضامن الأفراد مع المجموعات أو الجماعات التي ينتمون إليها يشكل المصدر الأساسي لقوتها فإن تحطيم الثقة بين مكونات الجماعة الواحدة أو المجموعة الواحدة يعد العامل الأكثر أهمية في تفكيكها وبعثرة مصادر قوتها، وتدفع هذه الحقيقة بالقوى السياسية صاحبة المصلحة إلى استخدام القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية للتأثير في الرأي العام وتحطيم ثقة الفرد بالمجموعة التي ينتمي إليها، أو الجماعة بهدف السيطرة عليه واستقطابه في القوى السياسية وتوظيفه لقضايا لصراع.
وتنطيق هذه العناصر على كل أشكال التجمع البشري التي عرفها الإنسان منذ القديم، بدءاً من التنظيمات العشائرية البدائية، ومرورا بالتنظيمات الدينية، وحتى أكثر التنظيمات الاجتماعية حداثة المتمثلة في مفهوم الدولة المعاصرة، في كل مراحل التاريخ يميل الإنسان إلى تكوين جماعات يتعايش أفرادها مع بعضهم، ويتقاربون بين بعضهم أيضا بجملة من الصفات، ولا يستطيع أي منهم الاستغناء عن غيره، وقد يكون المكان عامل التوحيد الرئيسي لهم، وقد يكون رابط الدم أو النسب، وقد تكون العقيدة والدين، وقد يكون أيضا رابط المنفعة كما هو شبكات الجريمة والسطو وغيرها.
ثانياً.   تطبيقات عملية وسياسات إجرائية:
تعد العناصر المشار إليها بمثابة المبادئ الأساسية الموجهة للقوى السياسية في أية جماعات من الجماعات، سواء جاء ذلك بوعي منها، أو بدون وعي، فالتحليل التاريخي للجماعات الإنسانية والتغيرات التي تطرأ عليها، يدل على الأصل في حياة الجماعة هو حماية نفسها من الأخطار التي تهددها، وتمس أمن أفرادها، والعمل على توفير حاجاتهم المختلفة، وقد تكون هذه الأخطار طبيعية في تكوينها، وقد تكون اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، وفي المجمل يمكن إيجاز أهم مظاهر تطبيق العناصر المشار إليه في حياة الجماعة على النحو الآتي:
1.    سعى كل جماعة اجتماعية على تحقيق مطلبين أساسيين بالنسبة إليها، توحيد مكوناتها الداخلية لتحقيق أعلى مستوى من التضامن الاجتماعي، والثاني توثيق علاقاتها مع الجماعات الاجتماعية الأخرى المثيلة لها في مشكلاتها وصراعاتها، ويظهر ميل الجماعة إلى ذلك من خلال ترسيخ جملة من المبادئ التي تختلف باختلاف تركيب الجماعة نفسها، فحيث التنظيمات القبلية العشائرية المبنية على روابط الدم، تظهر القيم الاجتماعي على شكل عادات وتقاليد متوارثة يصعب التحرر منها لما لها من قوة لدى الرأي العام، وتؤدي هذه العادات وظيفة حيوية تتمثل في دفع الأفراد إلى الارتباط بالجماعة، والخضوع لمصالحها العليا، وحيث تنتشر الجماعات على أساس ديني وعقائدي تظهر القيم الاجتماعية على أشكال دينية مبنية على أساس التحليل والتحريم، وتعد وحدة الجماعة محورها الرئيسي، ويمكن للقيم الاجتماعية التي تعزز وحدة الجماعة على تأخذ شكل احترام القوانين التي تقرها الدولة في النظم الحديثة، فالعادات والتقاليد في التنظيمات العشائرية، وأحكام التحليل والتحريم في الجماعات الدينية، والقوانين في نظم الدول الحديثة تؤدي في مجملها وظيفة أساسية وحيوية بالنسبة للجماعة تكمن في تعزيز الروابط بين الأفراد وتعزيز ثقتهم بالجماعة التي ينتموا إليها، وتنظيم علاقاتهم مع بعضهم ومع غيرهم على سواء.
2.    تأتي عملية التضامن الاجتماعي بين مكونات الجماعة الواحدة على أشكال متعددة، ونماذج مختلفة توجبها شروط الزمان المكان، وما هو صالح لجماعة لا يعد صالحا بالضرورة لجماعة أخرى، بما في ذلك الجماعة الواحدة بين حين وآخر، فقد أنتجت الشروط الموضوعية في مراحل زمنية قديمة أشكال مختلفة من الارتباطات، تعد التنظيمات العشائرية والقبلية واحدة منها، حيث كان عامل الارتباط وحدة الدم، فإذا تبعثر أبناء القبيلة الواحدة في مناطق مختلفة فإن رابط الدم يوحدهم ويجمعهم حتى لو كانوا في مناطق متباعدة، ولهذا جاءت العادات والتقاليد لتحمي الجماعة من خطر التبعثر، ويختلف الأمر نسبيا لدى الجماعات التي ارتبطت بالمكان، حيث أصبحت الزراعة عامل وحدتهم، وباتت الأرض تحظى بالقيمة الأولى في حياتهم، لأنها توحدهم على طريقة اعتادوا عليها من طرائق العيش، ومع ظهور الدين أصبح عامل الارتباط بين مكونات الجماعة يكمن في العقيدة والمبادئ التي يحملها الإنسان، ولما كان ذلك مبنيا في أساسه على الفهم والمعرفة، ولما كانت القدرة على الفهم والإدراك في طبيعتها مختلفة بين الأفراد بحسب قدراتهم العقلية والمعرفية، وباختلاف تجاربهم وبمستويات معارفهم، فإن مظاهر الاختلاف والتشتت والتبعثر ظهرت بين مكونات الرابط الديني بسرعة أكبر مما هي عليه بين مكونات رابط الدم، أو رابط المكان، أو رابط الدولة الذي أنتجته مجموعة كبيرة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عرفتها المجتمعات الأوربية في العصور الأخيرة.
3.    تأخذ تحالفات الجماعة الواحدة مع غيرها من الجماعات أشكال متعددة تتوافق من حيث النتيجة مع مستويات وعيها بالأخطار التي تهددها فعلا، فإذا كانت مستويات الوعي والمعرفة بهذه الأخطار محدودة، بحكم محدودية البعد الثقافي والمعرفي بين مكوناتها، جاءت تحالفات الجماعة مع غيرها من الجماعات على مستوى ذلك الوعي، فتنجذب لما هو قريب من وعيها ويلامس إحساسها المباشر، بينما يؤدي اتساع المعارف لدى أفراد الجماعة بالأخطار التي تهددها والتحديات المحيطة بها، ووعيهم بهذه الأخطار إلى بناء روابطهم مع الجماعات الأخرى على نحو مختلف، فقد تبدو الجماعات الصديقة في مستوى الوعي المحدود، جماعات عدائية في الوعي الأوسع، وقد يكون الأمر على العكس، فتصبح الجماعات التي ظهرت معادية في مستوى الوعي المحدود صديقة للجماعات في مستوى الوعي الأشمل، فالجماعات لا تقيم علاقاتها مع الجماعات الأخرى في ضوء مصالحها الحقيقية أو الأخطار التي تهددها فعلا، إنما في ضوء رؤيتها لهذه المصالح، وفي ضوء مستويات إدراكها لهذه الأخطار، وما ينطبق على الجماعات ينطبق أيضا على المكونات الفرعية للجماعة الواحدة، فما هو مصدر للخطر لدى شريحة من المثقفين مثلا، قد يكون مصدرا آمنا يمكن الاعتماد عليه بالنسبة لمثقفين آخرين.
وما ينطبق على الجماعات الإنسانية منذ القديم، من تنظيمات عشائرية، واجتماعية ودينية وإقطاعية،  وما ينطبق على تنظيمات الدولة في الوقت الراهن، ينطبق أيضا على واقع المجتمع العربي الراهن، بالمضامين نفسها، ولكن بأشكال مختلفة.
ثالثا. قضايا المجتمع العربي الراهن في ضوء هذا التصور.
يعد المجتمع العربي واحدا من المجتمعات الإنسانية الذي عرف خلال تاريخه الطويل أشكالا مختلفة من التكوينات الاجتماعية فانتشر بعضها في مراحل تاريخية محددة، وساد بعضها في مراحل تاريخية أخرى، وتباينت هذه التكوينات في مستويات قوتها وترابطها، وأقامت أشكال مختلفة من التفاعل مع الآخر، منها ما قام على أساس تحالفات عضوية متينة، ومنها ما قام على أساس الصراعات والحروب.
وفي كل مكون من مكونات الجماعة أو المجتمع، كانت مستويات المعرفة والوعي بالأخطار التي تهدد المجتمع أو الجماعة هي التي تحدد أشكال التفاعل مع الآخرين، بدءاً من الصراعات الداخلية حول السلطة السياسية التي ظهرت ملامحها جلية وواضحة بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، واستمرت حتى مرحلة الفتوحات الكبرى إلى حدود الصين في الشرق، وحدود الفرنجة في الغرب. ووصولا إلى مظاهر التفكك والانحلال التي أصابت المجتمع العربي فيما بعد، فالوعي بمستوى الخطر، وطرق تحقيق المنافع هو من حدد أشكال التحالفات والروابط بين القوى الاجتماعية والسياسية السائدة في أية مرحلة، وليست الأخطار بذاتها، ولا السعي لتحقيق المنافع بذاته، ويمكن توصيف قضايا المجتمع العربي حتى الوقت الراهن في ضوء هذا التصور على أساس العناصر الأساسية الآتية:
1.    تعد المنطقة العربية واحدة من المناطق التي تشهد صراعات اقتصادية واجتماعية وسياسية منذ القديم، لندرة مواردها الطبيعية تارة، حيث دفعت الندرة بجماعاتها للفتوحات الخارجية، ولوفرة هذه الموارد تارة أخرى مما جعلها هدفا للقوى الخارجية التي تستهدف هذه الموارد.
2.    استطاع المجتمع العربي تحقيق مستويات عالية من التضامن بين مكوناته، وتمكن من إيصال رسالة الإسلام إلى مناطق مختلفة من العالم، ولكنه شهد أيضا أشكالا عديدة من البعثرة والتفكك جعلته يفقد في كثير من الأحيان عنصر التضامن بين مكوناته، كما هو عليه في الوقت الراهن. ويعود ذلك إلى غياب المشروع الحضاري الذي ينشده كما كان عليه في الماضي.
3.    تشكل العلاقة بين الداخل والخارج جدلية مستمرة، فحيث تظهر معالم التضامن والترابط بين مكونات المجتمع الداخلية تظهر معالم القوة في العلاقات الخارجية، على مستوى التحالف مع القوى المشابهة من جهة، وعلى مستوى الصراعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من جهة أخرى، ولا يمكن فصل الأبعاد الداخلية عن الأبعاد الخارجية في أية مرحلة من مراحل التغير الاجتماعي بالنسبة إلى الجماعة.
4.    تعد عقلية الاختزال واحدة من أكثر العوامل  التي أسهمت وتسهم في بعثرة مصادر القوة وتشتيت شمل الأمة في المجتمع العربي، وهو الأمر الذي يتجلى في الوقت الراهن، حيث تجد كل واحدة من مكونات المجتمع أن قوة المجتمع العربي تكمن في توحده معها، وليس في توحدها معه، مما جعلها تجد عوامل الفرقة والاختلاف في غيرها، وليس في ذاتها، ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الشعور إلى مزيد من التباعد بين هذه المكونات، على حساب وحدة الكل.
5.    تمكنت القوى السياسية في العالم من توظيف مظاهر البعثرة والتشتت في المجتمع العربي بما يحقق لها مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والاستعانة بها في إعادة إنتاجها من جديد، وتعميقها مرة أخرى، ودفع مكونات المجتمع المختلفة إلى الارتماء في أحضانها والاستعانة بها لتمكينها من السيطرة على المكونات الأخرى، حتى صارت القوى السياسية ذات التاريخ الاستعماري الطويل في المنطقة العربية تستعين ببعض مكونات المجتمع على بعض مكوناته الأخرى.
6.    تأتي مظاهر الإرهاب والتطرف وعمليات التوظيف السياسي للدين بأشكالها المختلفة، بما في ذلك فكرة وجوبية قيام الدولة على أساس تطبيق الشريعة الإسلامية، في سياق الصراعات الدولية الراهنة، وهي جزء لا يتجزأ من سياسات صرف الرأي العام العربي عن قضاياه الراهنة، وإشغاله بتاريخه وماضيه حتى يتسنى للقوى السياسية الكبرى التخطيط لمستقبل المنطقة بمعزل عن مشاركة أبنائها.
رابعا.  الاستقرار الأمني، مظاهره وعوامل.
يبين التحليل الموضوعي لمظاهر لاستقرار الأمني في أية دولة من دولة العالم أن قدرة أية دولة على تحقيق أمنها الذاتي، يوجب تحقيق مطلبين أساسيين يرتبطان بالقدرة على توجيه الرأي العام وهما:
1.    وحدة التصورات والأفكار والرؤى حول مصادر الخطر الحقيقية التي تهدد الدولة والمجتمع، مما يجعل مشاعر الناس وأحاسيسهم وعواطفهم متجهة للتعاون بين بعضهم في إطار رؤيتهم الموحدة للخطر الذي يهددهم جميعا بوصفهم جماعات وأفراد، مما يساعد في تحقيق مستويات عالية من التضامن الاجتماعي الداخلي بين كل مكونات المجتمع.
2.    القدرة على التمييز بين الأصدقاء الذين يمكن أن يساعدوا بالفعل في تجنب الأخطار التي تهدد المجتمع، والأعداء الذين يشكلون في سياساتهم وتصوراتهم المضمون الحقيقي لهذه الأخطار، مما يساعد أية دولة على إقامة تحالفاتها وارتباطاتها مع الدولة الأخرى في مصلحها المستقبلية، وليس في ضوء مصالح غيرها.
ومع تحقق هذين المطلبين يمكن للدولة والمجتمع تحقيق مستويات عالية من الأمن الداخلي والخارجي على حد سواء، ذلك أن تناقضات الرؤى الداخلية حول مصادر الخطر التي تهدد الدولة والمجتمع تؤدي إلى انتشار مظاهر الفوضى والاضطراب في البنية الاجتماعية، وتشكل ثغرة كبيرة يمكن اختراقها من قبل الآخرين تتجلى في تدخلات القوى السياسية التي تجد نفسها معنية بهذا التدخل، وتسعى لضمان مصالحها من خلاله، حتى لو كان ذلك يشكل عدوانا صريحا على الدولة، ويمكن أن تكون مظاهر الإرهاب والتطرف والتوظيف السياسي للدين وانتشار شبكات الجريمة المنظمة وتهريب المخدرات والإتجار بالبشر ، ونشر الفساد بأشكاله المختلفة المالية منها والأخلاقية والاجتماعية أدوات سياسية ناجحة في هذا المجال، وهي تندرج فيما يسمى بحروب الجيل الرابع.
خامساً. مهددات الأمن القومي العربي بين التشخيص العلمي وتوجهات السياسة:
لا تنفصل مهددات الأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في داخل أي مجتمع عن الصراعات السياسية المرتبطة به على المستوى الخارجي، ذلك أن القوى السياسية في الخارج كثيرا ما تجد في المشكلات الاجتماعية والأمنية الداخلية أدوات سياسية يمكن استخدامها في سياق الصراعات المتبادلة مع هذه الدولة أو تلك، فتعمل على التشجيع عليها، وتنميتها وتوفير الشروط المناسبة لتعظيمها لما تؤدي من دور سياسي بالنسبة إليها.
لقد أدركت هذه الحقيقة الدول المتقدمة بوضوح بعد الحرب العالمية الثانية، فعملت متفقة على مكافحة الجريمة بأشكالها المختلفة بين بلدانها، وامتنعت جميعها عن ممارسة أي شكل من أشكال حروب الجيل الرابع بين بعضها، وتمكنت من توجيه الرأي العام الداخلي فيها على أن مصادر الخطر التي تهددها إنما هي من خارجها، ويمكن أن تكون هذه الأخطار من دول فقيرة لا تقوى حتى على حماية نفسها بسبب فقرها الزائد، أو تخلفها العلمي، أو ارتفاع عدد سكانها، أو تطرفها الديني، مما ساهم في توحيد الرؤية حول مصادر الخطر التي تهدد تلك البلدان، وتمكنت القوى السياسية فيها صاحبة المصلحة في هذه التوجهات من توجيه الرأي العام، ودفعه لقبول تحالفاتها مع بعضها ضد البلدان النامية والمتخلفة، وبات الرأي العام الغربي يميز بين الأصدقاء والأعداء على أساس رؤيته التي أنتجتها القوى السياسية صاحبة المصلحة في ذلك.
وإذا كانت الدول المتقدمة أدركت ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، وبنت سياساتها الداخلية والخارجية على أساسه، فإن الدول العربية حتى اليوم مازالت غير قادرة على تشخيص الأخطار التي تهددها بشكل واضح، وما زالت قوى سياسية عديدة تجد مصالحها مرتبطة بمصالح القوى السياسية الخارجية التي تشكل مصدر الخطر الحقيقي على أمن  المجتمع العربي من منظور قوى سياسية أخرى، ومازالت القوى السياسية في المجتمع العربي تجد نفسها معنية بالتدخل بشؤون بعضها بعضا، لغايات سياسية تفرضها تحالفاتها مع قوى سياسية أجنبية من حيث المضمون، ولغيات إنسانية وأخلاقية من حيث الشكل بهدف التسويق السياسي لها واستقطاب الرأي العام لصالحها، ومازالت قوى سياسية عديدة تحارب الجريمة بأشكالها المختلفة السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية في حيز مكاني معين، وتقيم المواثيق الأخلاقية والقانونية لضمان ذلك، في حدود سيطرتها ولكنها في الوقت نفسه تشجع على الجريمة بأشكالها المختلفة في حيز مكاني آخر تبعا لما توجيه عليها تحالفاتها مع الدول الأجنبية، وتبعا لما توجبه عليها أشكال حروب الجيل الرابع الهادفة إلى بعثرة القوة الداخلية في أي مجتمع تمهيدا للسيطرة عليه من قبل القوى الخارجية دون عناء يذكر.
ومن حيث المضمون يلاحظ أن المشاريع السياسية الغربية التي حاولت في الخمسينيات من القرن العشرين بعثرة مكونات المجتمع العربي في تحالفات سياسية متناقضة، وجعل دولة الاحتلال الإسرائيلي جزءا أساسيا من مكونات المنطقة، تتحالف مع بعض هذه المكونات وتتصارع مع بعضها الآخر، باتت حقيقة قائمة في الوقت الراهن، وبات الرأي العام لدى كل مكون من مكونات المجتمع يجد أن الأخطار التي تهدده إنما تأتي من المكونات الأخرى للمجتمع، وليس من دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، ولا من تلك الدول التي لها إرث استعماري طويل في المنطقة العربية، ومصالح تعبر عنها في كل محفل، بل يجد بعض مكونات المجتمع العربي في تحالفه مع دولة الاحتلال، ومع الدول الأجنبية الأخرى ما يساعده على الانتصار في صراعاته مع المكونات الأخرى من أبناء مجتمعه، وهو الأمر الذي جعل المجتمع العربي يصل إلى أبعد مما كانت تتطلع إليه مشاريع التحالف الغربي في الخمسينيات، والتي بنيت في أساسها على ثلاثة مبادئ، أولها حماية المصالح الغربية في المنطقة العربية والسيطرة على مصادر الطاقة فيها، ومن ثم أولوية حماية دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين على حساب أبناء المنطقة أنفسهم، وأخيرا المحافظة على مظاهر التخلف والتبعية في المنطقة العربية عموما، ومن الملاحظ أن هذه الاعتبارات باتت قائمة بفعل التعاون الوثيق بين الدول الأجنبية صاحبة المصلحة، وبعض مكونات المجتمع العربي التي تجد مستقبلها في هذه التحالفات.
وفي هذه البيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعيشها المجتمع العربي، وفي ظل الوعي المشوه بالأخطار التي تهدده، وتهدد مكوناته، وعدم القدرة على تشخيص هذه الأخطار برؤية شمولية معاصرة، وتوجيه الأنظار عن القضية الأم، قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وإشغال الرأي العام بقضايا خلافية أنتجتها عصور التخلف والظلام في التاريخ العربي، من الطبيعي أن تزداد فرص الاختراق السياسي والأمني من قبل القوى السياسية صاحبة المصلحة في تفتيت المجتمع وبعثرة مصادر قوته لتصبح هي صاحبة القرار الأول في التخطيط لمستقبل المنطقة وبنائها وفق مصالحها، والسيطرة على مواردها الطبيعية ومصادر الطاقة فيها، وكيفية التحكم من خلالها بمستقبل العلاقات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي ينشغل فيه أبناء المنطقة بالصراعات بينهم حول النقاط السوداء في تاريخهم بحثا عن حلول لمشكلات وهمية تنميها في وعيهم عمليات التوظيف السياسي للدين، للحيلولة دون مشاركتهم مشاركة فعالة في بناء مستقبلهم وفق حاجاتهم ولوازم تطورهم.
وفي هذه البيئة الاجتماعية أيضا، تجد شبكات الجريمة المنظمة بأشكالها المختلفة مجالا أرحب لممارسة نشاطاتها، فقد أضعفت صور الدين التي شوهتها عمليات التوظيف السياسي المعقدة له الشعور بالانتماء الوطني، والإحساس بالمواطنة، واحترام القانون، وأدت إلى ضعف الانتماء للدولة، في الوقت الذي أضعفت فيه عمليات التوظيف السياسي للدين أيضا الوازع الأخلاقي والإنساني والديني في الوعي الاجتماعي لدى الشباب، فلم يعد الشباب قادرين على الانضباط بقوة القانون الذي تمثله الدولة بعد التشكيك بشرعيتها الدينية، ولا بالوازع الأخلاقي والديني الذي بات توظيفه للسياسة أكثر وضوحا من أية مرحلة تاريخية في الماضي، وفي هذه الشروط الموضوعية كانت العوامل مواتية لنمو ظواهر الانحراف والجريمة وانتشار كبير لتعاطي المخدرات، وتسويغ فكري وديني كبير للفساد الأخلاقي والمالي والإداري في المجتمع.
سادساً. الصراعات السياسية والبعد الأمني في المجتمع العربي.
يقوم مفهوم الأمن القومي العربي على مسلمات  مفهوم الاستقرار الأمني في أية بلد في العالم، وفي وأية دولة من دوله، فالمسألة الأمنية لم تكن في الماضي، ولن تكون في المستقبل منفصلة عن الأخطار التي تهدد المجتمع في علاقاته مع الآخرين، فما انتشرت مظاهر الجريمة والفساد بأشكالهما المختلفة في مجتمع من المجتمعات الإنسانية، إلا وكانت قوى سياسية ومالية واقتصادية كبيرة تقف إلى جانبها خفية، وتعمل على حمايتها، وتجد في إمكانية استغلال الدين والقانون والسلطة ما يساعدها في حماية الجريمة وانتشارها، ويمكن لهذه القوى أن تظهر على شكل تنظيمات سرية تسيطر على آليات اتخاذ القرار في قطاع محدد من قطاعات المجتمع، وتتعاون مع بعضها بعضا حتى تحقق المنافع التي تتطلع إليها، وقد تتمكن في كثير من الأحيان من التحايل على القانون أو الشريعة، وتستغل القيم الأخلاقية والإنسانية في الوعي الاجتماعي وتستقطب من خلالها الكثير من ضعاف النفوس من ذوي الشأن على مستوى السلطة، وعلى مستوى الدين، وعلى مستوى الأخلاق.
وعلى طرف آخر، ومع غياب البعد الأخلاقي في العمل السياسي، واعتماد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وهو  ما يظهر جليا وواضحا في الصراعات السياسية العربية اليوم، وفي الصراعات الدولية، باتت حروب الجيل الرابع تعتمد اليوم اعتمادا كبيرا على تعظيم التناقضات الداخلية، من خلال تقديم الدعم لشبكات الجريمة المنظمة بأشكالها المختلفة في الدول المستهدفة، وشبكات الإرهاب والتطرف وإسباغ الطابع الشرعي عليها، لبث الفوضى والرعب في نفوس الآمنين من السكان، كجزء لا يتجزأ من آليات الحرب، فتصبح ممارسة التطرف والإرهاب والجريمة المنظمة ذات طبيعة مزدوجة بالنسبة للقوى السياسية، فذات التنظيم وبذات الأعمال يمكن أن يكون مخالفا للقانون، وذا طبيعة إرهابية إذا مارس ذلك في مجتمع ما، ولكن يصبح بطبيعة ثورية شرعية إذا مارس الأعمال ذاتها في بلد آخر، أو دولة أخرى، ويتجلى ذلك بأوضح صوره في مواقف الدول الغربية في علاقاتها مع المجتمع العربي، فأن تقوم دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين بقتل الأطفال وتشريدهم، ومنع أبناءها من الإقامة في بلدهم وملاحقتهم على المستوى الدولي، فهذا من دواعي الدفاع عن النفس، وكذا تدمير بيوت الفلسطينيين فوق رؤوس أصحابها، مع ما يترتب على ذلك من أخطار تهددهم، أما أن يحاول طفل فلسطيني الدفاع عن نفسه، وعدم استجابته للموت التي يفرضه المحتل الإسرائيلي فذاك هو الإرهاب بعينه، وتلك هي الجريمة التي تخالف القانون، والتي توجب إثارة الرأي العامل العالمي ضده في الصحف البريطانية والفرنسية والأمريكية.
وما يقال في تسويغ أفعال الجريمة والتشجيع عليها في فلسطين من قبل الدول صاحبة المصلحة في حماية دولة الاحتلال، وما يقال في الإرهاب الذي يمارسه الفلسطيني كما تصوره وسائل الاتصال الغربية، ينطبق على ما يجري في سورية ولبنان والعراق وليبيا وغيرها، فأن تقوم منظمة إرهابية بقتل فرنسي أو بريطاني فذاك يستدعي اجتماع مجلس الأمن والتنديد بالعمل الإرهابي، أما أن تقوم المنظمة نفسها بقتل المدنيين في العراق أو سوريا، أو لبنان، في منطقة آهلة بالسكان فتلك من قوى المعارضة الشرعية التي ينبغي حمياتها دوليا.
كما أن قيام شبكات الجريمة المنظمة بأشكالها المختلفة من شبكات الدعارة، إلى شبكات الإتجار بالمخدرات، وشبكات الإتجار بالبشر، وشبكة تهريب السلاح، بممارسة جرائمها في دول معين يمكن أن تكون جرائم يعاقب عليها القانون، وتوجب الضرورة محاسبة الفاعلين فيها وملاحقتهم قانونيا على المستويين المحلي والدولي، أما ممارسة هذه الجرائم نفسها في دول أخرى فليس من الصعوبة بمكان إسباغ الطابع الشرعي عليها، وتوصيفها بالأعمال القانونية، والتشجيع عليها لما فيها من بعد سياسي يتوافق مع مصالح الدول صاحبة المصلحة في هذه التناقضات.
وما بات ينطبق على الدول ذات صاحبة المصلحة في السيطرة على مقدرات المجتمع العربي وخيراته، ينطبق أيضا على الدول الحليفة له في المنطقة، والتي باتت جزءا أساسيا في منظومات التحالفات الدولية الراهنة.
سابعاً. متطلبات الأمن القومي العربي في المرحلة القادمة.
يأتي العمل على تحقيق الأمن القومي العربي منسجما مع التصورات المطروحة للعوامل المؤدية إلى حالة الاستقرار الأمني، والتي تقوم على مجموعة من الاعتبارات التي يمكن إيجازها على النحو الآتي:
1.    تنمية الوعي العربي بأن الخطر الرئيسي الذي يهدد المجتمع العربي في واقعه الراهن، وفي مستقبله، إنما يكمن في غياب المشروع القومي الذي يسهم في توحيد مكونات المجتمع، ويساعد على تعزيز التضامن بينها، فالمنطقة العربية كما هو معروف محاطة اليوم بمجموعة واسعة من المشاريع التي تستهدف وجودها وحضارتها، فلدولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين مشروعها المستقبلي الذي يتطلع إلى احتواء المنطقة وجعلها في خدمة تطورها، وللأتراك مشروعهم أيضا الذي عبرت عنه مؤلفاتهم وكتبهم، وكذا للإيرانيين الذي يتطلعون إلى احتواء المنطقة وفق مشاريعهم المستقبلية أيضا، ولا يمكن بحال من الأحوال تجاهل ما لدى الفرنسيين والبريطانيين والأمريكيين والروس وغيرهم من القوى السياسية في العالم، في هذا الوقت ليس واضحا على الإطلاق وجود أي نموذج لمشروع عربي يبحث عن ذاته، فكل السياسات والاستراتيجيات الواضحة تدور في فلك الآخرين، وليست ذات صلة بأي مشروع عربي، ولا تستطيع دولة عربية واحدة في الوقت الراهن، ولا قوة سياسية عربية، أن تتحدث عن مشروع قومي في وعيها يمكن أن يكون بديلا عن مظاهر التشتت والتبعثر التي يعيشها المجتمع العربي، وبديلا عن تحالفات مكونات المجتمع العربي المختلفة مع القوى السياسية الأجنبية، ويأتي هذا الغياب متوافقا مع المشاريع الغربية في الخمسينيات من القرن العشرين التي هدفت إلى إفراع الإنسان العربي من أي مشروع مستقبلي يخطط له، وقد أدى ذلك بالفعل إلى وصول المجتمع العربي إلى ما هو عليه في الوقت الراهن من بعثرة وتشتت، ومحاولات احتوائه من قبل القوى السياسية والتحالفات الكبرى، ولهذا فإن الضرورة توجب تنمية الوعي العربي بضرورة العمل على صياغة مشروع قومي يستطيع استقطاب مكونات المجتمع على اختلاف أنواعها ويمكنها من البحث عن مكان لها في الحضارة الحديثة بدلا من بعثرتها المتوقعة بين مشاريع مختلفة، فالصراعات التي تشهدها المنطقة هي في حقيقة الأمر إن هي إلا صراعات بين مشاريع أجنبية متصارعة ولا وجود لأي رؤية عربية و إسلامية فيها.
2.        تعزيز الوعي بأن مكونات المجتمع بأطيافها المختلفة، الدينية منها والعرقية، والمكانية والقبلية والعشائرية، كلها مكونات أصيلة في المجتمع، وتأتي قيمتها من كونها جزءا لا يتجزأ من المجتمع، ولا تستمد أي منها قيمتها من كونها أقليات أو أكثريات، لأن مثل هذه التعابير سياسية في مضمونها ونسبية في معانيها، ويمكن التلاعب بها وفق الأغراض السياسية، ففي عشية استقلال لبنان من احتلال الاستعمار الفرنسي له، اعتمد المشروع السياسي مبدأ الأكثرية والأقليات، فكان المسلمون أكثر عددا من المسيحيين، ولما كان ذلك لا يتوافق مع المشروع الفرنسي للدولة اللبنانية كما يتطلعون إليها، وجدوا في تقسيم المسلمين إلى سنة وشيعة، فكان أن أصبح المسيحيون يشكلون الأغلبية، فتم اعتماد أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيا، ولكن المشكلة ظهرت بعد تلك المرحلة بفترة من الزمن حيث أصبح عدد السكان المسلمين السنة، وكذا المسلمين الشيعة أكبر من عدد السكان المسيحيين، ولكن الدول التي أعطت الشرعية لمفهوم الأغلبية والأقليات وجعلته الأساس في القرار السياسي تخلت عنه عندما أصبح يناقض مصالحها، وتعاقب عليه الأنظمة والقوانين المعمول بهها في المجتمعات الأوربية، لما تحمله في مضامينها من تناقضات تهدد أمن المجتمع في كليته، ويقال الأمر نفسه إذا ما تم الحديث عن الأكراد في المشرق العربي، أو الأمازيغ في المغرب العربي، فكل مكون من المكونات يمكن النظر إليه على أنه جزء من الأكثرية إذا ما تم النظر إليه على أساس ديني، ويمكن النظر إليه على أنه أقلية إذا ما تم النظر من زاوية أخرى، ويرغب أغلب السياسيين في تعميق هذه الرؤية للمجتمع لما تنطوي عليه من إمكانية توظيفها لأغراض السياسة، وفي هذا السياق يشكل مفهوم الدولة، بما يحمله من معاني، المقدمة الأساسية للمشروع العربي، لأنه مبني على أساس المواطنة التي لا تعرف أقليات ولا أكثريات، فكل مواطن بما يحمله من مشاعر وأحاسيس وعواطف فهو أصيل في المجتمع الذي ينتمي إليه، وبالقدر الذي يستطيع فيه المجتمع العربي أن ينمي هذا الترابط بين مكوناته، ويعمق أواصر التعاون بينهم على قدر ما يساهم في بناء المجتمع العربي الحديث، ويحقق أمنه الداخلي والخارجي.
3.      تأتي العلاقات الخارجية مع القوى السياسية والدول في ضوء مصلحة المشروع القومي الواحد، وليس في مصلحة هذه الشريحة من السكان أو تلك، ولا في مصلحة هذه المجموعة أو غيرها، فما يحدد العلاقات السياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو مع روسيا، وكذلك مع ايران أو تركيا، إنما هو مقدار اعترافها بالمشروع القومي الذي يتطلع إليه العرب، أما أن تكون هذه العلاقات مبنية على رؤية محدودة، أو على وعود كاذبة من قبل هذه القوى أو تلك فهذا يعني من حيث النتيجة جعل الأولوية لهذا المشروع الأجنبي أو ذاك، وتاريخ العلاقة مع الفرنسيين والبريطانيين والأمريكيين وحتى مع الروس والأتراك الإيرانيين يكشف أن هذه الدول لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون صادقة في تعاملها مع المشروع القومي العربي، حتى أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين لم يكن له أن يتحقق لولا الدعم السياسي والعسكري اللامحدود لدولة الاحتلال من جهة، ولغياب المشروع القومي الذي تحاول الدول الغربية إجهاضه منذ الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
4.        في ضوء هذا التصور تشكل دولة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين الخطر الذي يهدد المجتمع العربي في واقعه الراهن، وفي مستقبله، لأن هذا المشروع يوجب نفي المشروع العربي بالمطلق، فعلى الرغم من أن مشاريع الأتراك والإيرانيين والروس والفرنسيين والبريطانيين يمكن أن تمس الأمن العربي بشكل أو بآخر، ولكن يمكن التعايش معها، فقد سبق للمجتمع العربي أن عاش في ظل الاستعمار العثماني مئات السنين، وكان الإسلام حاضنا للعلاقة مع الأتراك، ونشطت العلاقات التجارية والاقتصادية والاجتماعية، وجرت مع المجتمع التركي أواصر تعاون وتبادل معرفي وثقافي واسع، مما يجعل التعايش مع الأتراك ممكنا، حتى مع مشاريعهم المستقبلية ، وكذا العلاقة من الإيرانيين، فمن المعروف أن هؤلاء ساهموا في بناء الثقافة الإسلامية، ولا يجهل أحد على الإطلاق دور الفرس في بناء الفلسفة الإسلامية ومدارس الفقه وتشريعاته، وعلم الحديث بمظاهره المختلفة، فإلى جانب مظاهر التباين والتناقض التي تنشر اليوم بين الفرس والعرب، لكن كانت هناك مظاهر تقارب واسعة، أما بالنسبة لمشروع دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وأبعاده، فإنه يستهدف المنطقة العربية بالكامل، وصلته بالمشروع القومي العربي صلة تناقضية بالمطلق، وينفي كل منها الآخر، فلن تقوم للعرب قائمة في التاريخ طالما أن مشروع "دولة إسرائيل الكبرى" قائما بالنسبة إليها، وبالنسبة إلى مكونات المجتمع العربي التي تجد مصالحها المستقبلية معه.
5.        وفي هذا السياق لا بد لأية دولة عربية أن تعيد بناء سياساتها الخارجية في ضوء المصلحة العليا للمشروع القومي، فقد يؤدي تطوير العلاقات التجارية أو الاقتصادية أو السياسية مع دولة أجنبية إلى تحقيق منافع كبيرة على المدى القريب، ولكن الأخطار المتوقعة من هذه العلاقات على المدى البعيد قد تأتي بحجم أكبر بكثير من المنافع التي عادت إلى الدولة المعنية، خاصة إذا كانت هذه العلاقات تمس مصالح الدول العربية الأخرى، فكيف يمكن السعي لتحقيق مشروع الأمن القومي العربي مثلا، وثمة علاقات اقتصادية وسياسية لدول عديدة فيه مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي لا تتوقف يوما عن ممارسة أبشع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، فإذا العلاقة مع دولة الاحتلال يمكن أن تحقق منافع كثيرة لهذه الدولة أو تلك، فإن هذه المنافع غالبا ما تكون على المدى القصير، ومن المتوقع أن تكون تبعاتها في المستقبل أكبر من منافعها الراهنة، خاصة وأن هذه المنافع ترتد سلبيا عن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بكل تأكيد، فلا مجال للاجتهاد في هذا الأمر، لأن كل نفع يمكن أن تحققه العلاقة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي فإن مردوده يكون سلبيا على مستوى القضية الفلسطينية، وعلى مستوى المشروع القومي.
6.       في سياق السعي للمشروع القومي العربي، لابد من التأكيد على ضرورة امتناع  أية دولة عربية عن تقديم الدعم المباشر وغير المباشر لشبكات الجريمة المختلفة أشكالها، لقد تمكنت الدول الأوربية من حماية نفسها من الجريمة وشبكات الجريمة المتعددة من خلال تعاونها بعضها على مكافحة الجريمة بأشكالها المختلفة من جهة، ولم تورد أية دولة أوربية اتهامات لدولة أوربية أخرى بوقوفها إلى جانب شبكات الجريمة في بلادها، الأمر الذي يؤكد صدق تعاملها مع بعضها في قضايا مكافحة الجريمة، كما أن الدول الأوربية امتنعت كليا عن التدخل في شؤون الدول الأوربية المجاورة لها، وتمكنت هذه الدول من توجيه الرأي العام إلى أن الخطر الذي يهددها إنما هو من خارجها، ولا يمكن للمجتمع العربي أن تقوم له قائمة طالما تجد دول عديدة مسوغات لنفسها بالتدخل المباشر وغير المباشر في شؤون دولة أخرى لغايات سياسية مضمرة في ذاتها، وكل اجتهاد في هذا المجال يرتد سلبا لا محالة، لأن أية دولة في العالم أعجز من أن تخفي تعاونها مع عوامل الاضطراب والجريمة والإرهاب في دولة أخرى، مهما بلغت في ذكائها وحذرها، فقد باتت الأمور واضحة إلى أبعد الحدود.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق