السلام المنشود في المنطقة العربية

كتب السيد علي سالم في صحيفة الأهرام القاهرية، يوم 9/8/2006، وهو واحد من دعاة السلام مقالاً بعنوان “موت عملية السلام وحكاية الضوء الأخضر في الزمن الأغبر”، وهو يجد فيه أن عملية السلام ماتت بالفعل كما قال السيد عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، غير أن السلام بحد ذاته لم يمت.
نعم ماتت عملية السلام ولكن السلام لم يمت، إن السلام هو الهدف الأسمى الذي تسعى إليه الشعوب المتحضرة في العالم، والشعوب التي تتطلع إلى بناء مستقبلها على أسس من العلم والمحبة والتسامح، والمستقبل الذي يضمن الخير والسعادة للشعوب على اختلاف ألوانها ومشاربها، إنها دعوة إلى الإنسانية بأبعد معانيها..
ولا شك أن العمل على إقامة سلام يحقق التعايش المشترك بين الديانات السماوية الثلاث (الإسلامية والمسيحية واليهودية) في المنطقة العربية يعد الآن من أسمى الطموحات والآمال التي يتطلع الأحرار ليس في هذه المنطقة فحسب إنما في أنحاء العالم المختلفة، من الولايات المتحدة إلى أوربا والدول العربية والعالم الإسلامي، إن أحرار العالم مدعون اليوم لأن يساهموا في بناء السلام الذي أقرته الشرائع السماوية، ودعت إليه وجعلته في مقدمه مطالبها وأهدافها قبل أن تقره الأمم المتحدة في قوانينها ومواثيقها.. وإذا كان دعاة السلام في كل أنحاء العالم يشاركون السيد علي سالم رأيه، فإنهم يختلفون معه في نقاط ومسائل هامة لابد له من دراستها واستيعابها حتى تصبح الفجوة بينهم وبين دعاة السلام في العالم أقل حجماً، وربما زالت مع تفهمه أكثر لمبادئ السلام وشروطه.
إن أول شرط من شروط السلام في أي مجال جغرافي في هذا العالم إنما هو قيامه على الاعتراف المتبادل في الحقوق والواجبات بين الأطراف الداعية للسلام، والمثال الذي يمكن الإشارة إليه هو العلاقة بين الدول الأوربية بين كل منها والأخرى، فكل دولة أوربية تؤمن بالحقوق الاجتماعية والسياسية والدينية للدول الأخرى مجتمعة ومنفردة، ولهذا يتحقق بين هذه الدول سلام تحميه المبادئ التي تقرها كل دولة للأخرى، وكل دعوة للسلام بمعزل عن الاعتراف بحقوق الآخرين هي ضرب من الأوهام والخدع السياسية التي يراد منها تضليل ضعاف العقول، أو التستر على مصالح ضيقة مناقضة للسلام برمته، ومن المعروف والواضح في تاريخ القضية العربية “فلسطين” أن الكيان الصهيوني لا يؤمن بأي حق من الحقوق العربية منذ عام 1948، ومن الملاحظ أن العلاقات التي يقيمها الكيان الصهيوني مع الدول العربية، حتى تلك التي تربطه بها اتفاقات سلام مستقرة، إن هذه العلاقات غير متوازنة، وفيها قدر كبير من المساس بالسيادة الوطنية لهذه الدول بدلالة عجزها عن أي موقف يمكن أن يسمى اختراق لعملية السلام، وهذه الدول، التي توهم نفسها بأنها حققت عملية السلام، بالإضافة إلى ذلك لا تستطيع أن تبني مشاريعها الوطنية التي تقويها من اقتصادها وجيشها إلا بموافقة الكيان الصهيوني، فأي اعتراف بحقوق الآخرين يقره الكيان الصهيوني؟ وأي سلام يمكن إنجازه في غياب الاعتراف بالآخر، وبحقوقه التاريخية والثقافية والعسكرية… والأمر المؤكد أن السلام الملموس بين الدول الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية التي تحترم حقوق بعضها بعضاً لا يشبه في وجه من الوجوه السلام القائم بين دول عربية والكيان الصهيوني الذي يتنكر لأبسط هذه الحقوق.
وقبل ذلك لم تُظهر بريطانيا ولا فرنسا ولا الولايات المتحدة أي اعتراف بالحقوق العربية خلال تاريخها الحديث والمعاصر، فتاريخ هذه الدول يُظهر بشكل واضح أن مصالحها فوق كل اعتبار، فها هي الديمقراطية التي بشّر بها جورج بوش في العراق، مزيد من الدمار، ومزيد من الفوضى، ومزيد من الحروب الطائفية، ولا يختلف الشروق الأوسط الجديد الذي تعد به رايس في المنطقة مستقبلاً؟، ولهذا فإن الشرط الأول من شروط السلام غير متوفر، الأمر الذي يهدد كل عملية سلام مستقبلاً ما لم نؤخذ هذه المسائل بالاعتبار، غير أن عدم الاعتراف بحقوق الآخرين، لا يشكل بالضرورة عقبة أمام السلام، فإذا لم يتحقق مبدأ الاعتراف بالآخر على أسس متوازنة، كما هو الحال في قضية الصراع العربي الصهيوني، وكما هو الحال بالنسبة إلى الكيان الصهيوني فإن السلام يمكن أن يتم بالفعل ولكن على أساس التوازن في القوة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، فالتقدم الاقتصادي والاجتماعي الذي تخطوه إيران اليوم لا يأتي من اعتراف الكيان الصهيوني بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية لهذه الدولة إنما هو بفعل ما أنجزنه إيران من تقدم في هذه المجالات، وبفضل القوة العسكرية التي عملت على بنائها خلال السنوات السابقة، فالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا منذ سنوات تعمل على تهديد إيران بتصريحات رسمية تارة، وغير رسمية تارة أخرى، وعبر مجلس الأمن، وهيئة الطاقة الذرية وغيرها لدفعها إلى التخلي عن برنامجها النووي ولكن دون جدوى، والسبب في ذلك بالتأكيد لا يعود إلى احترام الولايات المتحدة لحقوق هذه الدول، ولا لرغبتها في أن تقيم علاقات متكافئة معها، إنما يعود بدرجة أساسية إلى أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تورط نفسها بأعمال إرهابية يمكن أن تنعكس عليها أو على أصدقائها في المنطقة، فالسلام هنا لا يقوم على الاعتراف المتبادل في الحقوق والواجبات، إنما يقوم على أساس التوازن في القوى، مع أن هذا السلام ليس هو السلام النموذجي، لكنه هو سلام واقعي.
في المنطقة العربية، من الملاحظ أن الكيان الصهيوني يمكن أن يلزم الآخرين بمئات الاتفاقيات، ويكبل قيوده آلاف المرات، ولكنه لا يقيد نفسه باتفاق، ولا يقيد نفسه بموقف، وفشل عملية السلام في المنطقة إن هو إلا دليل لابد من فهمه، فإذا أدرك العرب أن عملية السلام فشلت لأن الولايات المتحدة أوكلت هذه المهمة للكيان الصهيوني المحتل، فإن الموقف الموضوعي الذي تمليه الضمائر الواعية يتطلب فهم أسباب هذا الفشل الذي منيت به عملية السلام، والعمل على تداركها قبل أن تمتد تداعيات الفشل لتصيب كل النظم العربية، ولا تستثنى من ذلك دولة عربية واحدة، ذلك أن المنطقة مليئة بمظاهر الاضطراب والقلق، وان الشعب العربي الذي يتطلع إلى أن تكون له قيادات قوية صارمة قادرة على اتخاذ القرار، وهو يفتقر إليها، وجد في السيد حسن نصر الله بعد حرب تموز وانتصار المقاومة الإسلامية ما يلبي تطلعاته هذه، حتى أصبحت صوره تفوق في انتشارها صور الزعماء السياسيين والرؤساء والملوك العرب أنفسهم في الساحة حتى في بلدانهم، وهو في نفوسهم ومشاعرهم أكبر تأثيراً وأشد عمقاً، لأن هذه ليست خاضعة لمراقبة السلطات، ولا لمؤسساتها الأمنية، ولا يعود ذلك لأن السيد حسن نصر الله نموذج لقائد خارق فحسب، إنما لأنه في الموقع الذي يتطلع إليه كل مواطن عربي بعد مظاهر العنجهية والتعالي التي يمارسها الكيان الصهيوني في المنطقة العربية، وبعد مظاهر الفشل التي منيت بها عمليات السلام التي قادها الكيان الصهيوني خلال الفترة السابقة.
أما بالنسبة إلى المقاومة الإسلامية في لبنان فإن مصيرها الانتصار في كل الاحتمالات.. فانتصارها العسكري، يقلق راحة الزعماء العرب والأنظمة السياسية العربية لما يسببه من ازدياد الفجوة التي تفصلهم عن شعوبهم، ولأنهم لم يعودوا قادرين على الاستمرار في مواقعهم إلا بمزيد من الارتباط بالكيان الصهيوني، وبمزيد من العنف والإرهاب ضد قوى المعارضة حتى السياسية منها، الأمر الذي يبعد هذه النظم عن شعوبها أكثر فأكثر، ويعزز الولاء للمقاومة وهي خارج حدود الدول، وهذا بحد ذاته انتصار للمقاومة الإسلامية وليس بعده انتصار. أما إذا استطاعت الولايات المتحدة والدول الغربية مع الكيان الصهيوني، وبالتعاون مع النظم العربية السياسية أن تنهي المقاومة الإسلامية في لبنان، عسكرياً، وهو أمر مستبعد على كل حال، فمن المتوقع أن تصبح المقاومة الإسلامية رمزاً جديداً، أكثر قوة، واشد باساً، تستقطب عندئذ كل القوى المحبة للسلام القائم على العدل في المجتمع العربي قاطبة، وتبقى صور المجازر الوحشية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في ذاكرة الأحرار في كل أنحاء العالم، تنمي الأحاسيس الوطنية، وتلهب المشاعر القومية، وليس غريباً أن تزداد الفجوة بين النظم السياسية العربية ومواطنيها لما يسود بين الجماهير من اعتقاد من أن ما حصل إن هو إلا نتيجة لتحالف هذه النظم مع الكيان الصهيوني في حربه ضد الإسلام والمقاومة الإسلامية، فالنظم التي تساعد الكيان الصهيوني في حربه ضد المقاومة الإسلامية، وضد الإسلام ليست من الإسلام في شيء، ولكن لن تجد النظم السياسية العربية بعد ذلك من يدافع عنها لأن دورها الاستراتيجي في خدمة الكيان الصهيوني تكون قد انتهت ولم تعد قادرة على أن تؤدي أدواراً جديدة لصالحه، وليس من الغريب أن تلاحق عقدة الذنب كل من تواطئ مع الكيان الصهيوني في حربه على لبنان ومقاومته الباسلة، ولكن بعد فوات الأوان.

ولهذا فإن ما يحمي النظم العربية الراهنة، يكمن باختصار في عودة هذه النظم إلى شعوبها، وليكن رهانها على هذه الشعوب لأن ذلك أفضل لها ألف مرة من أن يكون رهانها على الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، الذي سيعمل بالتأكيد للتخلص منها لما تشكله من عبئ عليه بعد انفصالها عن شعوبها من جهة، وانتهاء أدوارها من جهة أخرى، فنهاية النظم العربية محتومة بالتأكيد، ولهذا من الأفضل لهذه النظم أن تعود لشعوبها، فإن شاءت الأقدار واستشهد المرء في سبيل وطنه وقضيته، وجد في بلاده من يرفع اسمه ويمجد ذكراه، وإن كتب الله له النصر، ازدادت قوة البلاد، وعلا شأنها، أما إذا عززت هذه النظم ابتعادها عن شعوبها بعدائها لمشاعرهم وأحاسيسهم وعواطفهم ومصالحهم وتحديها لعقائدهم وثقافاتهم فإنها لن تجلب إلى البلاد إلا الخراب والويلات، ولن تجد بعد موتها إلا السجل الأسود الذي يلطخ ذكراها، والذي لا يمحوه التاريخ أبداً، وهذا هو السلام الذي تتطلع إليه الولايات المتحدة للمنطقة العربية، لأنه بهذه الطريقة فقط، وفق تصوراتهم، يتحقق السلام للكيان الصهيوني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق