التنمية الإنسانية في المجتمع العربي

يعد تقرير “التنمية الإنسانية العربية لعام 2002” الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي في حقيقة الأمر خطوة متقدمة من خطوات العمل العلمي العربي الرامي إلى تشخيص مشكلات الواقع الذي تعيشه الأمة العربية في ظروفها الراهنة، وقد بذلت فيه جهود كبيرة تستوجب الثناء لكل العاملين الذين ساهموا في إنجازه وإعداده بالصيغة التي تم إعداده فيها. فهو يعكس بالفعل القضايا الأساسية التي تشغل بال المفكرين والمعنيين بقضايا التنمية، والمعنيين باتخاذ القرار بالإضافة إلى كونها تشغل بال عامة الناس الذين يتطلعون دائماً إلى البحث عن حاجاتهم وضرورات حياتهم. فالناس، كما يذكر التقرير، هم الثروة الحقيقية للأمم. والهدف الأساسي للتنمية هو إيجاد بيئة تمكن هؤلاء من التمتع بحياة طويلة وصحية وخلاقة. وهي المسألة التي يغلب تجاهلها مع الانشغال الشديد بتكديس السلع والمال.
وبالنظر إلى أن التقرير يحمل عنوان التنمية الإنسانية فهو يقدم تعريفاً لها، ويشير إلى أن تقارير التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي تشرح كيف أصبحت التنمية الإنسانية تقاس عادة بمؤشرات التنمية البشرية الأربعة، وهي العمر المتوقع عند الميلاد، ومعرفة القراءة والكتابة بين البالغين، ومعدلات الالتحاق بالمؤسسات التعليمية، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. ويبين الفصل الأول من التقرير أن مفهوم التنمية الإنسانية بمعناه الأوسع يشمل خيارات إضافية تضم حريات الإنسان وحقوقه ومعرفته.
ويعرِّف التقرير التنمية الإنسانية بأنها عملية توسيع الخيارات، ففي كل يوم يمارس الإنسان خيارات متعددة، بعضها اقتصادي، وبعضها اجتماعي وبعضها سياسي، وبعضها ثقافي. وحيث أن الإنسان هو محور التنمية، فإنه ينبغي توجيه هذه الجهود لتوسيع نطاق خيارات كل إنسان في جميع ميادين سعيه. والتنمية الإنسانية عملية ومحصلة في الوقت ذاته. فهي تهتم بالعملية التي يجري من خلالها توسيع الخيارات، وتركز على النتائج التي تم تعزيزها (التقرير، ص: 13).
وفي شرح معادلة التنمية الإنسانية يورد التقرير ما تعنيه عملية توسيع الخيارات الإنسانية بناء على ما يعتمده تقرير التنمية البشرية لعام 1990، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فيشير التقرير إلى أن عملية توسيع الخيارات الإنسانية إنما تنطوي على “ارتباطها محورياً بموضوعين: القدرات والفعاليات من جانب، والفرص المتاحة من جانب آخر. أما فعاليات الإنسان فإنها تشير إلى تلك الأمور القيمة التي يقوم عليها أو يتمتع بها الإنسان مثل التمتع بالتغذية الجيدة أو الحياة المديدة أو المشاركة أو المساهمة في أعمال المجتمع” (التقرير، ص: 13). 
·                "وفي الجانب الآخر فإن القدرات الخاصة لكل إنسان تنطوي على منظومة مختلفة من الفعاليات التي يحققها الإنسان. فهي تعكس الحرية التي يمارسها الإنسان لتحقيق هذه الفعاليات. وتوسيع خيارات الإنسان يعني تكوين وتعزيز قدراته. ويمكن عمل هذا من خلال تنمية الموارد البشرية: الصحة والتغذية الجيدتين والتعلم بما فيه اكتساب المهارات" (التقرير، ص: 13). 
·                "غير أنه لا يمكن استخدام القدرات إن لم تتوفر الفرص لذلك سواء كان ذلك على سبيل التمتع أو الإنتاجية أو المشاركة الاجتماعية والسياسية والثقافية. ويمكن خلق الفرص الاقتصادية من خلال الحصول على الموارد المنتجة مثل القروض وفرص التشغيل، كما أن الفرص السياسية تحتاج إلى حياة سياسية وظروف متاحة" (التقرير، ص: 13). 
·                "وعليه فإن التنمية الإنسانية تعبر عن معادلة يتكون طرفها الأيمن من القدرات الإنسانية بينما يتكون طرفها الأيسر من الفرص الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الممكنة للإنسان من إعمال قدراته الخاصة" (التقرير، ص: 13). 
وبذلك فإن مفهوم التنمية الإنسانية لا يعني توفير الحقوق التي يشعر كل فرد بالحاجة إليها فحسب، إنما توفير العوامل التي تساعد على تحقيق ذلك أيضاً. الأمر الذي يجعل الفرد أقدر على العطاء، وأقدر على زيادة الأداء. وتصبح التنمية الإنسانية نتاج للتفاعل بين القدرات التي يتمتع بها الإنسان، والظروف المحيطة به التي تمكنه من تفعيل تلك القدرات.
وبرغم أن التقرير يتضمن شروحاً مفصلة لمؤشرات التنمية الإنسانية في الوطن العربي، ويعتمد في ذلك على مجموعة كبيرة من الإحصاءات والبيانات الموثقة علمياً، إلا أن الملاحظة التي تقتضي الضرورة الإشارة إليها تكمن في مفهوم التنمية الإنسانية ذاته. فعلى الرغم من أهمية التصور المطروح لمفهوم التنمية الإنسانية لا بد من الإشارة إلى مجموعة من الملاحظات حول هذا التعريف، وما يترتب على استخدامه من نتائج قد تجعله يفتقر إلى مضمونه في كثير من الأحيان.
يلاحظ في هذا التعريف أنه يركز على الإنسان وينظر إليه على أنه الهدف الأساسي من عملية التنمية، وفي ذلك تكمن المشكلة، ذلك أن الإنسان بالفعل هو أساس التنمية وقاعدتها الرئيسية، وهو العنصر الفاعل لتحقيقها، أما الهدف منها فهو معالجة قضاياه ومشكلاته التي تحول دون تحقيق إنسانيته، والإنسانية لا تقاس بما يناله من حقوق، أو مكاسب، إنما تقاس بما يؤديه من فعل وممارسه تجسد البعد الأخلاقي والإنساني في شخصيته، وتعزز من ارتباطه بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وبالجماعة الإنسانية يعيش فيها. وبالتالي فإن غاية التنمية هي الإنسان أيضاً، ولكنه من حيث النتيجة التي تنتهي إليها بوصف الإنسان فاعلاً فيها.
إن التركيز المستمر على حقوق الإنسان (حق الحياة، حق العمل، حق التعلم، حق الرفاهية، وغير ذلك من الحقوق)، والنظر إليها على أنها معيار أساسي من معايير التنمية يثير التساؤل عن الجهة المعنية بتقديم هذا الحقوق. ففي حين يرى بعضهم أن الدولة هي المعنية في كل بلد عن توفير ذلك لأبنائها، يرى آخرون أن الدولة لا يمكن لها أن تتجسد في الواقع إلا من خلال أشخاص يتناوبون في تمثيلها، فهي ليست كائن مجرد ومستقل عن القائمين عليها، وعندما تناط بها مسؤولية تأمين الحقوق لأبنائها، ففي ذلك ما يشير إلى أن مجموعة من الفاعلين في المجتمع هم المعنيين بهذه المسؤولية. ولا توجد في الواقع الفعلي دولة معزولة عن هؤلاء. علاوة على أن الشريحة التي تمثل الدولة في لحظة من اللحظات ليست هي نفسها الشريحة التي تمثل الدول في لحظة أخرى. فالأفراد الذين يتناوبون على تمثيل السلطة لا يمكن وصفهم بالاستقرار طالما أنهم في تبدل مستمر، مع اختلاف فترات استقرارهم واستمرارهم، ومن الطبيعي أن تحمل الدولة في كل لحظة من اللحظات خصائص الأفراد الذين يمثلونها، وخصائص الشريحة السكانية التي تجسد مفهوم الدولة في الواقع الفعلي. ولما كان هؤلاء يحملون في الوقت نفسه خصائص المجتمع الذي ينتمون إليه فإن السلطة أيضاً لا بد أن تحمل هذه الخصائص، وهذه المواصفات.
إن جعل الدولة مسؤولة عن تأمين الحقوق الأساسية لأبنائها، ومع غياب إمكانية قيام الدولة بمعزل عن الأفراد المكونين لها، جعل هذه المسؤولية محالة إلى غائب، حيث يستطيع كل واحد من أبناء المجتمع إحالة هذه المسؤولية إلى الدولة التي يراها في الآخرين، ولا يراها في ذاته، حتى مع كونه يمثلها وهو في موقع متقدم من سلطتها. فبات الشعور بالحاجة إلى الحقوق، التي تكثر المطالبة بها، أكبر بكثير من الشعور بالواجب الذي تفرضه ضرورات التمثيل في السلطة. وأصبحت هذه المشكلة قائمة حتى في وعي عدد كبير من رجال السياسة وأصحاب القرار، بالإضافة إلى ما هي عليه بين عامة الناس.
إن التأكيد المستمر على الحقوق التي يجب يتمتع بها كل فرد من أفراد المجتمع، وغياب الحديث عن الواجب وما يقتضيه من التزامات نحو الآخر أوجد مشكلة حقيقية على المستويات المختلفة تتمثل بمشكلة غياب الوعي بمبدأ التوازن بين الحقوق والواجبات، فبات الشعور بالحاجة إلى الحقوق يفوق كثيراً الشعور بالواجب. وباتت هذه المشكلة واضحة في العلاقات الاجتماعية المختلفة، بما في ذلك العلاقة بين الآباء والأبناء، وبين الزوج وزوجته في الأسرة الواحدة، وبين التاجر والمستهلك، وبين البائع والشاري، وبين المعلم والطالب، وبين الموظف ومراجعيه، بل أن العاملين في المراتب العليا للدولة باتوا يشعرون بأن حقوقهم على المواطن أكبر بكثير من واجباتهم نحوه.
إن المطالبة الدائمة بحق الطفل، وحق المرأة وحق الشاب، وحق العامل، وحق المستثمر، وحق المستهلك، وحق المعلم وحق الطالب وحق الموظف، وحق المدير، وحق المنتج، وحق المستهلك، حق القاضي، وحق المتهم.. وغير ذلك من الحقوق.. غيّب عن الأذهان الواجبات التي تقع على عاتق كل منهم، حتى أصبحت كل شريحة تفكر بحقوقها، وتطالب بها، في الوقت الذي تتجاهل فيه واجباتها، والتزاماتها إزاء الآخر.
إن التنمية الإنسانية، التي يمكن لها أن تحقق بالفعل النهوض القومي الشامل لا تكمن فيما يتحقق للفرد مـن حاجـات نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية … الخ، إنما في مقدار ما يوفره الفرد للآخرين من هذه الحقوق. وهي ليست فيما يناله من خدمات وحاجات أيضاً، إنما في مقدار ما يقدمه لغيره من هذه الخدمات والحاجات، وما يقدمه لهم من أجلهم لصلاح حالهم، وليست فيما يحققه الفرد من معارف وعلوم، إنما بمقدار ما يعطيه للآخرين من هذه المعارف والعلوم. وهي ليست في مقدار ما يتمتع به من الحرية إنما بمقدار ما يمنح لغيره الحرية.
والتنمية الإنسانية بهذا المعنى لا تنفصل عن الأخلاق التي تصف الناس في كل عصر وزمان، وهي القضية التي باتت مهملة تماماً في الفكر الاجتماعي والاقتصادي العربي الراهن. فالطبيب والمهندس والتاجر وأستاذ الجامعة ورجال الضابطة الإدارية والعسكريين في المراتب العليا وكل الذين يوفر لهم المجتمع مقومات نجاحهم المهني، ويمنحهم ذلك النجاح يصبحون عبئاً على التنمية، وأعداء لها بمعزل عن الأخلاق، وبمعزل عن القيم الإنسانية التي تضبط مساراتهم، وتحول دون انحرافاتهم. وقد تصبح الأخطار الناجمة عن أفعالهم أكبر بكثير من تلك التي يعملون على تجاوزها ومعالجتها.
إن الحاجات الأساسية التي يسعى إليها الكائن الحي إنما توفر له بالفعل كل مقومات السلوك الإنساني، وتدفعه لأن يعمل، ويمارس الفعل، غير أن الأخلاق الإنسانية والمعايير الاجتماعية تحدد مسار السلوك واتجاهات الفعل، فإذا كانت الحاجة إلى الطعام ضرورة تفرضها سمة الجوع التي يتصف بها الإنسان وتدفعه للبحث عنه، فإن طريقة الحصول على الطعام، وكيفية تناوله إنما تتحدد بالقيم الأخلاقية والإنسانية التي تميز أفراد المجتمع الإنساني، وتضمن لهم الموازنة بين حقوقهم وواجباتهم في كل مستوى من مستويات التفاعل الاجتماعي. كما أن هذه القيم تسهم في تكوين اتجاهات الأفراد إزاء بعضهم بعضاً، وتؤثر في أنماط سلوكهم الاجتماعي. وفي هذه الاتجاهات والقيم بالذات تكمن حقيقة التنمية الإنسانية.
إن الدول العربية تبذل جهوداً كبيرة لمكافحة مظاهر الانحراف التي يقدم عليها عدد كبير من المهنيين ورجال الأعمال وكبار الموظفين، وذلك من خلال التوسع في التشريعات القانونية التي تهدف إلى تعزيز نظام الضبط الاجتماعي، غير أن مظاهر الانحراف تزداد اتساعاً مع كل توسع في التشريعات القانونية، بل ربما ازدادت مظاهر الانحراف بمعدل يفوق كثيراً قدرة القانون على ممارسة الضبط. والسبب في ذلك أن الإهمال الواضح للبعد الأخلاقي في حياة الناس لا يمكن للقانون أن يقوم مقامه على الإطلاق، فالأخلاق أوسع من القانون، وأقدر منه على ممارسة الضبط الاجتماعي، والاهتمام بها ورعايتها يجسد في حقيقة الأمر التنمية الإنسانية بمعناها العام.
لقد حققت الدول العربية مجتمعة ومنفردة إنجازات كثيرة في مجال التنمية البشرية، غير أن ما هو مطلوب منها مازال كبيراً، ومازالت المعوقات واسعة جداً. أيضاً غير أن أغلبها يعود إلى ضعف البعد الاجتماعي والإنساني والأخلاقي في شخصية الإنسان العربي، بصرف النظر عن المواقع التي يشغلها في بنية التنظيم الاجتماعي. ذلك أن الذات (ذات الفرد) أصبحت محور اهتماماته ونشاطاته وفعالياته، بما في ذلك الأفعال والنشاطات التي يمارسها في سياق عمله الوظيفي أو المؤسسي. أما الآخر فلا يحظى بالاهتمام أو التقدير أو الاحترام إلا بمقدار ما يعود منه على الذات من نفع وفائدة.
إن المعوقات التي تحول دون إنجاز المشروع التنموي، وفي مجمل الدول العربية إنما هي نتاج لانتشار أنماط من القيم الاجتماعية التي جعلت من الاستهلاك الفاخر والحقوق الفردية معايير تفاضل بين أبناء المجتمع الواحد، بصرف النظر عن شرعية الطرق والوسائل التي تساعد على توفيرها وتأمينها. إذ سرعان ما يجد الأفراد أنفسهم مندفعين إلى البحث عن الطرق التي يحققون من خلالها مظاهر الاستهلاك الترفي، ومكانتهم الاجتماعية أيضاً، بصرف النظر عما يترتب على ذلك من أضرار تمس الأفراد الآخرين، وتمس بنية المجتمع بصورة عامة.
والمشكلة أنه يصعب تحديد الجهات المسؤولة مباشرة عن الواقع الراهن، صحيح أن الدولة تحمل أعباء مسؤولية جسيمة في هذا السياق، غير أن الدولة لا يمكن تجسدها في الواقع إلا من خلال المؤسسات العاملة فيها، ومن خلال الأفراد القائمين عليها، ولما كان هؤلاء جزءاً لا يتجزأ من المجتمع، فمن الطبيعي أن ينجرفوا مع التيارات القوية التي تجرفهم، وتجرف غيرهم من رجال الأعمال وكبار التجار والصناع وغيرهم. ولهذا ليس من اليسير توجيه نصائح لهذه الشريحة أو تلك من الشرائح الاجتماعية، وليس من اليسير تقديم اقتراحات عملية لهذه لمؤسسة أو تلك. فالمشكلة أكبر من أن تحمل مسئوليتها هذه الجهة أو تلك من جهات الدولة، أو هذه الشريحة أو تلك من الشرائح الاجتماعية.
وفي ضوء هذا التصور فإن من الممكن صياغة مجموعة من المؤشرات الرئيسية التالية لقياس التنمية الإنسانية في المجتمع العربي، والتي تأتي في مقدمتها:
·                مقدار احترام الآخر، والعمل على صيانة حقوقه، وصيغة السؤال الذي يمكن طرحه لا تتعلق في مقدار الحقوق التي ينالها في مجتمعه، إنما في مقدار الواجب الذي يؤديه، وفي مقدار الحقوق التي يعطيها لغيره. فالمجتمع العربي مجتمع حافل بمظاهر التنوع، وفيه قدر كبير من الاتجاهات والتيارات الفكرية ذات الطابع الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومن القيم الإنسانية أن يأخذ الفرد في التعامل مع الآخر بوصفة يحمل كل الخصائص والصفات التي تجعل منه إنساناً يتمتع بالحقوق التي يتمتع بها هو. وفي ذلك ما يدل على أن الآخر لا بد أن يحظى بقيمة تساوي قيمة الذات، ولا يجوز على الإطلاق التفاعل معه على أنه أقل شأناً في أي مجال من المجالات. فعلى الرغم من الناس تتفاوت في مواقعها الاجتماعية وفي الأدوار التي تؤديها في منظومة العلاقات الاجتماعية غير أن قيمتهم الإنسانية واحدة، وهي غير قابلة للتفاضل بين الكبير والصغير، ولا بين الذكور والإناث، ولا بين المعلم والطالب، ولا بين العامل وصاحب العمل. ولا حتى بين عربي أو أعجمي. ذلك أن القيمة الإنسانية كل لا يتجزأ، والناس فيها متساوون. 
·                مقدار تحقق العدالة في التفاعل مع الآخر، ونفي ممارسة الظلم. ولا تتعلق صيغة السؤال في هذا السياق بمقدار الكرامة التي يحصل عليها الفرد في مجتمعه، إنما في مقدار صيانته لكرامة الآخرين، وليس بمقدار ما يعامله الناس بجدارة، إنما في مقدار ما يعامل غيره بجدارة واستحقاق. وعندما يتمثل كل فرد من أفراد المجتمع هذا المبدأ، فإن النتيجة المحققة هي أن يبلغ كل ذي حق حقه، لا بفعل القهر والقوة والصراع، إنما بفعل نمو الوعي الإنساني، وبفعل التنمية الإنسانية الحقيقية. 
·                مقدار تمثل القضايا المجتمعية الكبرى في ذات الفاعل، ذلك أن الانشغال بالحقوق الفردية، والبحث عنها، والنظر إليها على أنها من الحقوق التي لا يجوز التنازل عنها جعل الاهتمام بالقضايا المجتمعية ضعيفاً، فليس من الإنسانية في شيء أن تأخذ المرأة بالدفاع عن حقوقها وتلهث وراء عملها، ضاربة بحقوق أطفالها بعرض الحائط بحجة التطور والتقدم الإنسانيين، وليس من الإنسانية في شئ أن تأخذ مجموعة التجار والمستثمرين بالسعي لتحقيق الأرباح الاقتصادية الكبيرة والتباهي بذلك في الوقت الذي تزداد فيه مظاهر الفقر والعجز.. إن قضايا الطفولة، والعمالة، والتعليم، والغذاء، والكساء، والحاجات الأساسية الأخرى هي قضايا مجتمعية، وكل فرد من أفراد المجتمع معني بها بحسب الموقع الذي يشغله في بنية التنظيم الاجتماعي. وبمقدار ما يقدم الفرد لغيره من أفراد المجتمع، وللقضايا التي تشغل بال الناس، من عون ومساعدة بمقدار ما يتمثل في ذاته القيم الإنسانية والأخلاقية. إن المؤشرات الثلاثة المتعلقة بعلاقة كل فرد من أفراد المجتمع مع غيره من الناس تعد بمثابة المؤشرات الحقيقية للتنمية الإنسانية، وما من مجتمع يمكن أن يحقق تطوره الخلاق ما لم تكن هذه المبادئ المتمثلة بالحق والعدل والخير، الأساس الذي يبني عليه الأفراد أنماط سلوكهم وأشكال تفاعلهم مع بعضهم بعضاً، على أن يكون ذلك بدافع التمثل والوعي لا بدافع القهر والقوة.
·                ومع أن الواقع الفعلي قد يفيد أحياناً باستحالة تتحقق هذه الصورة النموذجية لأي مجتمع من المجتمعات، فإن درجة اقترابه منها أو ابتعاده عنها يعد بحد ذاته مؤشراً من مؤشرات التنمية الإنسانية، فالمجتمع الذي يغلب فيه الرأي بأن هذا التصور هو نموذجي جداً، وأن الناس يسوِّغون لأنفسهم الخروج عن هذه القيم والمعايير لاعتبارات اجتماعية أو اقتصادية ففي ذلك ما يدل على أن مؤشرات التنمية الإنسانية ضعيفة بمقدار انتشار هذا الرأي وهذا التسويغ. كما أن المجتمع الذي يغلب فيه الرأي بأن هذا التصور قابل للتحقق عندما يأخذ الناس بوعي مصالحهم بوصفهم مجموعات إنسانية، وليس بوصفهم أفراداً، وعندما يأخذ الناس بمعاقبة من يخرج عن هذا النموذج ومحاسبته، ففي ذلك ما يدل على أن مؤشرات التنمية الإنسانية حسنة بمقدار انتشار هذا الرأي.
إن الإنسان وفق هذا التصور هو الأساس الذي تبنى عليه عمليات التنمية والتطوير الاجتماعي والاقتصادي بأشكاله المختلفة. ومتى تحققت عملية التنمية الإنسانية بمؤشراتها المذكورة فإن القضايا الاجتماعية الأخرى تصبح مرشحة للحل دون عناء كبير، فمشكلات الغذاء، والكساء والحاجات الأساسية، وعمل المرأة والحرية، والتعليم لم تأت لنقص في الحاجات، ولا لعجز في الموارد، إنما نتيجة الأشكال الاجتماعية لصيغ التفاعل بين الأفراد والجماعات البشرية والتي تنتفي فيها مؤشرات التنمية الإنسانية المتمثلة بالحق والعدل والخير.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق