العقوبات البديلة للسجن وإمكانيات تطبيقها في المجتمع العربي




تستحوذ العقوبات الاجتماعية البديلة للعقوبات سالبة الحرية على اهتمام الباحثين والمفكرين في العلوم الاجتماعية والأمنية بمجالاتها المختلفة، خاصة بعد أن أثبتت التجارب الواقعية للعقوبات التقليدية السالبة للحرية أن آثارها السلبية تفوق ما يترتب عليها من آثار إيجابية تخص الشخص المعاقب من جهة، وتخص أسرته من جهة ثانية، غير أن عقبات كثيرة مازالت تحول دون إمكانية تطبيق العقوبات البديلة في المجتمعات عامة، والمجتمع العربي بشكل خاص، وذلك لاعتبارات كثيرة يرتبط بعضها بسهولة ايجاد العقوبات التقليدية المكافئة للفعل الجرمي، ومنها ما يتعلق باختلاف الثقافات والعادات والتقاليد من مجتمع إلى آخر، واختلاف القيم من شخصية إلى أخرى.

فمن وجهة النظر الأولى، يلاحظ أن العمل بتطبيق العقوبات السالبة للحرية يقوم بالأساس على تقدير الآثار الناجمة عن الفعل الجرمي، ومقدار الأخطار المترتبة عليه، ومن ثم تقدير العقوبة المناسبة من خلال تحديد الفترة الزمنية المكافئة للفعل الجرمي، ففي ضوء مقدار الآثار السلبية الناجمة عن الفعل الجرمي يتم تحديد الفترة الزمنية المكافئة التي ينبغي أن يمضيها مرتكب الفعل الجرمي في السجن، وبالتالي فإن كل الأفعال الجرمية يمكن أن يجد لها القاضي ما يكافئها من فترة زمنية يمكن أن تراوح بين عدّة أشهر، وبين عشرات السنين. إن نمط العقوبة التقليدية واحد وثابت، ولكن الاختلاف في الفترة الزمنية التي تختلف باختلاف حجم الآثار المترتبة على الفعل الجرمي.

ولا يتضح الأمر على هذا الشكل فيما يتعلق بالعقوبات البديلة، فالمشكلة التي تظهر للعيان هي اختلاف نوعية العقوبة البديلة على مستوى النوع، وعلى مستوى الكم، فالعمل في خدمة المسجد مثلاً، يختلف عن العمل في خدمة المرضى بالمشافي، وقد يكون هذا العمل في خدمة هذا القطاع أو ذاك أصعب من العمل في قطاع آخر، مما يجعل فرض العقوبة لمدة ثلاثة أشهر في قطاع قد تكافئ ستة أشهر في قطاع آخر، وبالتالي يصبح تقدير العقوبة البديلة (للعمل في قطاع محدد) بالنسبة لكل فعل جرمي مختلف تماما عن تقديرها بالنسبة إلى عمل آخر (في قطاع مختلف).

وتصبح هذه المشكلة أكثر صعوبة بالنسبة إلى الفتيات، لاعتبارين أساسيين، يرتبط الأول بعقوبة السجن نفسها فهي أشد وطأة بالنسبة للإناث مما عليه بين الذكور، ولكن البدائل أكثر صعوبة أيضاً، ذلك أن عمل الفتاة في مجالات الخدمة الاجتماعية يتنافى مع القيم الاجتماعية والأخلاقية التي يستقر عليها المجتمع العربي، فليس من اليسير أخلاقيا تكليف هذه الفتاة أو تلك بالعمل في هذا القطاع الخدمي أو ذاك.

لقد كان من اليسير على دارسي القانون والمشرعين صياغة العقوبات التقليدية في ضوء حجم الآثار المترتبة على الفعل الجرمي، من خلال وحدة نمط العقوبة، فالسارق لمبلغ عشرة آلاف ريال مثلا يعاقب بنصف الفترة التي تفرض على السارق لعشرين الف ريال، ذلك أن نوعية العقوبة واحدة والاختلاف في مستوياتها وتدرجاتها، أما في العقوبات فهي تختلف من حيث النوع، ومن حيث الفترة الزمنية أيضاً، ففرض العقوبة البديلة للعمل الاجتماعي لمدة ستة أشهر في قطاع معين، لا يكافئ فرض العقوبة نفسها للعمل في قطاع اجتماعي آخر.

وتترتب على غياب التجانس في العقوبات البديلة صعوبات تطبيقية عديدة تحول دون إمكانية وضع قواعد عامة يمكن اللجوء إليها في الكثير  من حالات الفعل الجرمي، وتصبح العقوبات البديلة مختلفة باختلاف خصائص الفاعلين من جهة، وباختلاف العقوبة البديلة من جهة ثانية، وباختلاف القاضي من جهة ثالثة، مما يعطي لتطبيق العقوبات البديلة بعدا ذاتيا في كثير من الأحيان، على خلاف العقوبات التقليدية السالبة للحرية، حيث يكون من اليسير تصنيف الأفعال الجرمية بحسب خطورتها، ويتم تحديد العقوبة التقليدية المناسبة لكل مستوى من مستويات الخطورة، وهو أمر لا يتاح بالوضوح نفسه بالنسبة للعقوبات البديلة.


ومن وجهة نظر ثانية، فإن المعوقات التي تحول دون تطبيق العقوبات البديلة في كثير من الأحيان، وصعوبة الوصول إلى قواعد عامة يمكن الركون إليها، اختلاف العادات والتقاليد والاتجاهات بين الأفراد والجماعات في الدولة الواحدة، وفي الدول المتعددة، فقد يكون العمل الاجتماعي (بوصفه عقوبة بديلة) في قطاع معين، كحدمة المسجد مثلاً، يسيرا بالنسبة غلى بعضهم، وأفضل عشرات المرات من السجن، وقد يكون الأمر مختلفا بالنسبة إلى شخصيات أخرى، فقد يكون السجن أكثر صعوبة بالنسبة إلى بعض الأفراد، وبالتالي فإن تخصيص فعل جرمي معين بعقوبة محددة قد يشكل عاملاً قويا من عوامل الردع بالنسبة إلى بعض الأفراد، ولكنه قد يكون من العوامل المشجعة بالنسبة إلى أفراد آخرين، مما ينفي إمكانية التوصل إلى قاعدة يمكن تطبيقها في المجتمع فاتجاهات الأفراد ومشاعرهم وأحاسيسهم تختلف بدرجة كبيرة، وقد تنتفي عن العقوبة البديلة صفة الردع التي تشكل عنصرا اساسيا من عناصر العقوبة في معظم القوانين في العالم، ويمتد الأمر إلى العادات والتقاليد والقيم التي تختلف بين البيئات الاجتماعية، وتجعل من العقوبات البديلة ذات قيم مختلفة من حيث قوة ردعها، فقد تحمل عقوبة السجن بالنسبة إلى الكثيرين وصمة ترافق المتهم طيلة حياته، وبرغم ذلك قد يكون السجن أيسر بالنسبة لهم من وصمة العمل في الخدمة الاجتماعية في هذا القطاع أو ذاك، لما ينطوي عليه من إزلال لشخصيتهم، وإضعاف لكرامتهم، خاصة إذا كانوا منحدرين من بيئات اجتماعية قوامها التفاخر بالسيادة والقوة والعنفوان، وتزداد المشكلة صعوبة بالنسبة إليهم إذا كانت العقوبة توجب عليهم الخضوع لشخصيات أخرى تنتمي لقبائل أو عشائر أخرى.

وتأسيسا على ذلك فإن العمل على تطبيق العقوبات البديلة يوجب تصنيفها بحسب قوة ردعها بالنسبة إلى كل بيئة اجتماعية على نحو مستقل، مما ينفي وجود قاعدة عامة يمكن الاعتماد عليها، فعقوبة القتل مثلاً، هي السجن المؤبد، ويمكن توحيدها على هذا الأساس في كل أنحاء العالم مع زيادة أو نقصان نسبيين، ولكنها كانت النفي في النظام العشائري التقليدي، وهي عقوبة بديلة، ولكنها في الوقت الراهن غير صالحة، ففي حين كان النفي يعني إهدار الدم، وتحرر القبيلة نفسها من أية عشائرية يمكن أن تترتب على النفي بسبب ما اقدم عليه المتهم من جريمة، ولهذا كان الفرد يتخوف من النفي لأنه يصبح منعزلاً، أما اليوم فلم تعد عقوبة النفي مجدية لوجود بدائل العيش في مجتمعات أخرى، مما يجعل عقوبة السجن المعامل المشترك بين كل المجتمعات، وبالتالي فإن العقوبة البديلة للسجن فيما يتعلق بجريمة القتل لا يمكن أن تكون واحدة في أكثر من دولة أو مجتمع، بحكم اختلاف المعاني والدلالات التي تنطوي عليها هذه العقوبة، فعمل بعض الأشخاص في مجال الخدمة الاجتماعية قد يكون أشد قساوة من الإعدام، أو السجن المؤبد، كأن يكون القاتل شيخ عشيرة، أو واحدا من وجهائها، ولكن هذه العقوبة قد تحمل كل معالم الفرج والخلاص بالنسبة إلى بعضهم الآخر.

ولهذه الأسباب يأخذ منظرو العقوبات البديلة بالقول بأنه هذا النمط من العقوبات لا يشمل كل الجرائم، إنما يشمل بعضها فقط مما يتعلق بعقوبات التعزير التي يستطيع القاضي من خلالها تقرير هذه العقوبة أو تلك، وعلى الرغم من وجاهة هذا الرأي غير أن تطبيقاته تصلح لمجتمع محدد دون غيره، وهو الأمر الذي يقلل من أهميتها على المستوى القانوني، ويجعل للعامل الذاتي تأثير قوي في توجيه الحكم، وبالتالي لا يمكن جعل هذه العقوبات خاضعة لنص قانوني أو تنظيمي يمكن الاقتداء به في أكثر من قضية، فما يقرر قاضي في حالة ما ينفيه قاضي آخر في حالة مشابهة، حتى أن القاضي الواحد نفسه يمكن أن يعتمد بديلاً لعقوبة محددة تارة، ويعتمد بديلاً آخر تارة ثانية.

غير أن اتساع حجم الجرائم، ومحدودية الإمكانات المالية المخصص للسجون يؤدي إلى انتشار مشكلات عديدة في السجون تجعل من آثارها السلبية تفوق آثارها الايجابية، بل تصل آثارها السلبية في كثير من الأحيان إلى حد الحاق الضرر المباشر بالسجين، أو ذويه، وبالتالي تصبح العقوبة التي يتلقاها أكبر بكثير من العقوبة المقررة، فالسجن لمدة عام أو عامين مثلاً يمكن أن يكون مجديا إذا توفرت في السجون شروط الحياة الاجتماعية المناسبة، ولكن غياب هذه الشروط يدفع المتهم إلى اكتساب أنماط من السلوك التي تجعل منه أكثر إجراما من ذي قبل، وتمكنه من تكوين جماعات أقران وأصدقاء يساعدونه في ممارسة أنماط من السلوك الجرمي أشد خطورة من السلوك الذي اقدم عليه سابقاً، خاصة وأن بيئته الاجتماعية لا تستقبله على النحو الايجابي بعد خروجه من السجن بسبب الوصمة التي تلاحقه، فيجد في الأقران الذين عرفهم في السجن الملاذ الآمن الذي يعود إليه، مما يجعل انجرافه في الجريمة أكبر مما كان عليه في الماضي، وهذا المشكلات باتت كثيرة ومتعددة، مما يدفع بالمنظرين إلى البحث مرة أخرى عن العقوبات البديلة التي تخفف من حدة ازدحام السجناء في السجن، ويمكن أن تساعد في إيجاد الظروف المناسبة لعمليات التأهيل والإصلاح داخل السجون، وتساعد من يخضعون لها في عدم انجرافهم مع الجريمة.


وتبقى المهمة الأساسية للعقوبات البديلة، وخاصة بالنسبة للفتيات، في عمليات التصنيف، فإذا كانت العقوبات السالبة للحرية تجعل لكل فعل جرمي ما يناسبه من عقوبة السجن تبعا لمستوى الخطورة التي نجمت عنه، فإن المهمة الأصعب في العقوبات البديلة هي في تصنيف هذه العقوبات أيضاً ووضعها في سلم متدرج يتوافق مع مستويات الخطورة التي تنجم عن الأفعال الجرمية، بما يتناسب والوضع الاجتماعي للمرأة، ويحفظ كرامتها الإنسانية، بوصفها أما وزوجة وأخت، فقد يقوم بعض الأبناء بارتكاب جرائم أكثر خطورة عندما يجدوا أن والدتهم تتعرض للإهانة الاجتماعية من جراء خضوعها للعقوبة البديلة، والعمل في قطاع خدمي يقلل من احترام الناس لها. أما اعتماد عقوبة الغرامة المالية مثلاً، ففي حين يمكن أن تكون كارثية بالنسبة لعدد كبير من الإناث من شريحة الفقراء، ويجدن في السجن أهون الشرين، ولكن هذه العقوبة يمكن أن تكون يسير للغاية بالنسبة لشريحة أخرى من الناس، مما يجعلهم يقتلون القتيل ويدفعون ديته دون أية مشكلة أو حرج، بل يسيرون في جنازته أيضاً، ولهذا يصعب اعتمادها عقوبة بديلة في كل الحالات، وخاصة بالنسبة إلى الفتيات.

وفي ضوء هذا التصور فإن العمل على تطبيق العقوبات البديلة في المجتمع العربي بالنسبة إلى الفتيات مازال غير مكتمل التصور من الناحية القانونية، ويحتاج إلى مزيد من الجهود على مستوى تنظير الأفعال الجرمية التي تقدم عليها المرأة، وما يناسبها من عقوبات توافق بنية المجتمع العربي وعاداته وتقاليده، وتحفظ للمرأة كرامتها، وتجنبها الوقوع في مشكلات اجتماعية من نوع آخر، مع الإشارة إلى الدول الأوربية تأخذ بتطبيق الكثير من العقوبات البديلة بالنسبة إلى الفتيات، لكن الكثير منها غير قابل للتطبيق في المجتمع العربي، بسبب بنية هذا المجتمع وعاداته وتقاليده، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة المزيد من الدراسات النظرية والتحليلية التي تعمل على تصنيف أنماط الفعل الجرمي الذي تمارسه المرأة، وأنماط العقوبات البديلة التي يمكن أن تناسب هذا الفعل أو ذاك، في هذه البيئة الاجتماعية أو تلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق