علم الاجتماع المعاصر وقضايا المجتمع العربي



يشكل تفكك البنى الاجتماعية والأخلاقية الذي يمس المجتمع العربي الراهن من أكثر التحديات المحيطة به خطورة، خاصة بعد أن ثبت بالدليل الواضح أن المجابهات العسكرية التقليدية والمباشرة لم تعد كافية لتحقيق أطماع الآخرين، ولم تعد قادرة على أن تأت بثمارها المرجوة منها، بفعل مصادر القوة المجتمعية فيه التي تجعله أكثر قوة وصلابة في مجابهة الأطماع التي تهدده على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما جعل العمليات الاجتماعية الهادفة إلى تفكيك بنى المجتمع وإضعاف مصادر قوته الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في صلب الأهداف الرئيسية للقوى التي تعتقد أن استمرار تفوقها العسكري والاقتصادي مرتبط أشد الارتباط بتفكيك البنى الاجتماعية والثقافية والحضارية للمجتمع العربي، وتفكك بناه الأساسية، وبعثرة مصادر قوته الدينية والأخلاقية والاجتماعية.

وإذا كانت قوة التكوين الاجتماعي، في أي مستوى من مستوياته، من الأسرة، وجماعات الأقران، والمؤسسات الاجتماعية، وحتى بنية الدولة، مرتبطة بأشكال التنظيم الذي يحدد أوجه العلاقات بين مكوناته، فإن انحلال ذلك التنظيم يأتي في مقدمة التحديات التي تهدده، وتمس وجوده، وهو الأمر الذي يتجلى في مسارات التغير الاجتماعي المشهود في المجتمع العربي منذ نهايات الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، بفعل مجموعة كبيرة من العوامل الداخلية والخارجية على حد سواء، وبفعل عمليات الترابط بين الداخل والخارج أيضاً، وقد ترتبت على ذلك كل مظاهر الضعف التي تبدو واضحة في المشهد العربي، بما فيها مظاهر الاختراق الكبيرة التي حققتها دولة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، حتى باتت لقوى اجتماعية وسياسية عربية عديدة ارتباطات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي تفوق ارتباطاتها مع قوى عربية وإسلامية أخرى، وتساهم في عمليات توجيه الرأي العام، وصرفه عن القضية الأم إلى قضايا ثانوية تؤدي من حيث النتيجة إلى مزيد من تفكك البنى الاجتماعية، ومزيد من عوامل الضعف في مصادر القوة المجتمعية التي كانت لحين من الزمن عاملاً أساسياً من العوامل التي مكنت المجتمع العربي من مقاومة الاستعمار  عندما أخذت جيوشه تطأ الأرض العربية، والمقدسات الدينية فيه.

 ولعلم الاجتماع في هذا السياق دور أساسي في فهم مكونات الواقع العربي، ومصادر قوته وضعفه، شريطة ألا ينجرف مع التيارات التي تجعل من المجتمع الغربي بمكوناته الحديثة نموذجه، كما هو حال العدد الكبير من دعاة الثقافة العربية اليوم، وألا ينجرف ايضاً مع التيارات التي تجعل نموذجها تجربة تاريخية مفترضة لم تتحقق بالفعل في أية مرحلة زمنية سابقة، وفي الحالتين يعيش الباحث حالة الاغتراب التي تجعله بعيدا عن فهم واقعه الاجتماعي في سياقه الطبيعي.
إن المجتمع العربي الراهن، بما ينطوي عليه من مشكلات وقضايا وأزمات.. إنما هو نتاج تجربة تاريخية، لها سياقها الزماني والمكاني، وكل محاولة لفهم الواقع في ضوء تجارب أخرى منفصلة عنه في الزمان أو المكان تصبح منظومات من الأفكار (أيديولوجيا) تفتقر إلى أساسها العلمي والمعرفي، فلا يمكن على الإطلاق فهم المجتمع العربي من منظور طبقي أو ليبرالي، كما يفعل ذلك بعض المفكرين العرب، كما لا يمكن في الوقت نفسه فهم مشكلات المجتمع الراهن من منظور يختزل العقيدة الإسلامية في طقوس وأشكال خالية من المضمون، ففي الحالتين معاً تسيطر  الفكرة (الأيديولوجيا) على نموذج التحليل، الذي يصبح شكلاً من أشكال التقليد دون فهم الخصوصيات الثقافية والحضارية للتجربة التي يعيشها المجتمع.


وفي ضوء ذلك تكمن أهمية التحليل الاجتماعي للقضايا العربية المعاصرة، وتكمن أهمية دراسات علم الاجتماع المعاصر، فالحروب التي تستهدف ثروات المجتمع العربي وخيراته إنما تعتمد اليوم على تفكيك بنى المجتمع وإضعاف مصادر قوته، حتى تزول عنه تماما معالم خصوصياته التاريخية، مما يجعل انتماء الأفراد للآخر أشد من انتمائهم لحضارتهم، وارتباطهم به أقوى من ارتباطهم بمجتمعهم الأم، الأمر الذي يدعو مرة أخرى إلى ضرورة فهم مشكلات المجتمع العربي في ضوء الخصوصيات الزمانية والمكانية التي تميز الواقع الراهن، وفي ذلك تكمن أهمية بحوث ودراسات علم الاجتماع المعاصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق