المجتمع العربي المعاصر وقضايا الأمن الفكري

يعد الأمن الفكري واحداً من أهم أركان منظومة الأمن الوطني للدولة والمجتمع، خاصة مع التوسع الملحوظ في نمو وسائل الاتصال واستخداماتها المتنوعة، مما يجعل انتقال الأفكار من حيز مكاني إلى آخر خارج السيطرة السياسية لأي دولة.. وخارج أية رقابة يمكن أن تفرضها الجهات الوصائية في المجتمع.
وتكمن أهمية البحث في قضايا الأمن الفكري في ما يمكن أن تترتب على المساس به من مخاطر عديدة، على مستوى الفرد والأسرة والبنى الاجتماعية السائدة، والضوابط الأخلاقية الموجهة للسلوك، وحتى على مستوى التنظيم السياسي للدولة، فمع ظهور الخلل في منظومات الفكر غالباً ما تنتشر مظاهر مرافقة لها تبدو واضحة في عمليات سوء التكيف النفسي للأفراد، وأشكال تفاعلهم الاجتماعي مع غيرهم، وفي طبيعة روابطهم التي يقيمونها بين بعضهم من جهة، وبينهم وبين المؤسسات التي يعملون فيها، أو الجماعات التي ينتسبون لها من جهة ثانية.
إن المنظومة الفكرية لكل فرد تحدد على الأغلب طرق تفاعله مع الآخرين، فمن خلالها تتكون اتجاهاته الفكرية والاجتماعية والسياسية، وقيمه التي توجه أحكامه على الأنماط السلوكية، ومن خلالها ينتظم في الجماعات التي ينتسب إليها، ويرسم أشكال علاقاته الاجتماعية مع غيره، وتتحدد أدواره في المؤسسات الاجتماعية، بما تنطوي عليه عملية التفاعل من وضوح في الحقوق والواجبات التي توجبها عمليات التواصل وتبادل المنافع، فتصبح المنظومة الفكرية العامل الأكثر أهمية في تحديد أنماط سلوكه وأشكال فعله، مما يجعل المدخل المعرفي واحداً من أهم مداخل تغيير السلوك، وقد أدركت الحضارات الإنسانية والثقافات المختلفة ذلك، وبنت عليه منظومات تواصل عديدة من شأنها أن تسهم في تكوين المنظومات الفكرية للأفراد، وتؤثر في سلوكهم.
ويجد المتتبع لتاريخ الحضارة العربية الإسلامية أن العقيدة الإسلامية انتشرت بقوة في المجتمع العربي عندما أستطاع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يبني منظومة اجتماعية ثقافية متكاملة لعملية التواصل مع الأفراد وتنظيم المعارف التي يكتسبونها، وخاصة تلك التي تؤثر في اتجاهاتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، وقد استطاعت هذه المنظومات أن تحقق مستوى عالٍ من الأمن الفكري للأبناء، واستطاعت حمايتهم من التحديات الثقافية التي جابهت المجتمع الإسلامي وكادت تعصف به فيما بعد، وعلى الرغم من ذلك استطاعت هذه التحديات أن تخترق بعض مظاهر الضعف في المجتمع العربي، وتسهم في إيجاد مواطن خلل عديدة كان لها تأثير كبير في تاريخ المجتمع العربي.
في المجتمعات المستقرة، غالباً ما تنتشر الأفكار على شكل منظومات معرفية تتكامل مكوناتها، وتترابط عناصرها وظيفياً، فيسهم كل عنصر في دعم العناصر الأخرى، ويتلقى الدعم منها حتى تبدو منظومة الأفكار وحدة متكاملة لاتتجزأ، ولكنها مع ذلك تشكل نسقاً أساسياً من الأنساق التي يؤلفها المجتمع ويقدم لها كل عوامل الاستمرار والنمو، ويستمد منها الكثير من مقومات وجوده. ويترتب على هذا التصور أن كل تهديد يمس المنظومة الفكرية السائدة، غالباً ما يجد آثاره قد امتدت إلى المجتمع برمته..، وكل تهديد يمس أمن المجتمع بصورة عامة، غالباً ما تمتد آثاره أيضاً إلى المنظومة الفكرية ويحدث فيها خللاً ترتبط مظاهرة بحجم المخاطر التي تمس المجتمع.
وبالنظر إلى الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والتاريخية والسياسية التي تميز المجتمعات الإنسانية عن بعضها، فإن المخاطر التي تمس الأمن الفكري في مجتمع ما، قد لا تكون كذلك بالنسبة إلى مجتمع آخر، والأفكار التي يمكن أن تكون عاملاً من عوامل التطور في دولة ما، يمكن أن تكون عاملاً من عوامل التخلف في دولة أخرى، الأمر الذي ينفي إمكانية التفاعل مع القضايا الفكرية بطريقة واحدة أو أسلوب واحد في المجتمعات المختلفة والدول المتعددة.
وقد يلاحظ التباين على مستوى الدولة الواحدة، أو المجتمع الواحد أيضاً، خاصة مع اتساع الحيز الاجتماعي والمكاني لهذه الدولة، ومع انتشار مظاهر التنوع في مكوناتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، فالفكرة التي يمكن أن تسهم في تعزيز وحدة جماعة من الجماعات الإنسانية المكونة للدولة، يمكن أن تسهم في بعثرة أفراد جماعة أخرى ضمن الدولة نفسها، وما هو عامل من عوامل ترابط الأفراد في حيز جغرافي، يمكن أن يكون عاملاً من عوامل شرذمتهم في حيز جغرافي آخر، مما ينفي مرة أخرى إمكانية التعامل مع الأفكار والمنظومات الفكرية بطريقة واحدة مع مكونات اجتماعية وثقافية متعددة.
ومن الملاحظ أن المجتمع العربي الراهن يتصف بقدر كبير من التنوع الثقافي والاجتماعي الذي يعكس غنى تجربته التاريخية وعمقه الحضاري، فبلاد الشام والعراق ومصر والجزيرة العربية والمغرب العربي عرفت حضارات إنسانية وثقافات تاريخية مازالت آثارها جلية وواضحة على امتداد المساحة المكانية للمنطقة، ويفسر ذلك الكثير من مظاهر التنوع القائمة في التكوينات الاجتماعية بما تحمله من تنوع في العادات والتقاليد والقيم والاتجاهات والأفكار.. وعلى الرغم من ذلك فإن مظاهر الوحدة والتضافر مستقرة في الوعي الاجتماعي العام، وتجعل من هذا التنوع مصدراً لإثراء التجربة التاريخية للحضارة العربية بتجلياتها المتعددة، ومصدراً لنمو مظاهر التنوع في الأفكار والاتجاهات والميول السائدة.
     ولهذا تأخذ استجابة المجتمع العربي للتحديات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، التي يعيشها في الوقت الراهن، أشكالاً مختلفة على قدر اختلاف الخصوصيات التاريخية لمكوناته، مما يفسر انتشار أنماط من التفكير، ونماذج من الرؤى المتباينة حول ما ينبغي القيام به إزاء التحديات المشار إليها، وسرعان ما تصبح مواطن الخلل بين مكونات الواقع أكثر اتساعاً، وأشد خطورة لما يمكن أن ينجم عنها من آثار تهدد وحدة المجتمع وتماسكه وترابط مكوناته، فيزداد الميل نحو التطرف لدى شريحة واسعة من السكان التي قد تجد في عمليات التواصل مع الآخر مصادر جديدة للتهديد التي تمس أمن المجتمع والدولة، لما تحمله هذه العمليات من آثار كبيرة في القيم والعادات والتقاليد والاتجاهات العربية الإسلامية، في الوقت الذي يزداد فيه أيضاً الميل نحو ضرورة التفاعل مع الآخر وتمثل قيمه وأفكاره واتجاهاته بوصفها عاملاً أساسياً من عوامل التطور الاجتماعي والاقتصادي.
     وغالباً ما تقترن جهود التطرف بشقيه (المعادي لعمليات التواصل مع الآخر، والمؤيد لهذه العمليات) بنشاطات فكرية وأيديولوجية واسعة هدفها تسويغ مواقفها، وتطوير منظومات فكرية وتحليلية قادرة على تقديم رؤاها وتحليلاتها بقدر كبير من التماسك المنطقي، وقد تجد في مواطن الضعف التي تتصف بها منظومات فكرية أخرى ما يساعدها على نشر مقولاتها بين جمهور من الناس يتسع أو يضيق تبعاً لما تحمله هذه الجماعة من رصيد اجتماعي ومعنوي بين الجمهور.
     وفي ضوء هذا التصور فإن التحديات الفكرية التي يمكن أن تهدد وحدة المجتمع العربي وتماسكه تختلف بين الدول والمجتمعات باختلاف العوامل الأساسية الآتية:
·                التنوع الاجتماعي والثقافي لمكونات الواقع الراهن بما يحمله من تنوع في الاتجاهات والقيم والأفكار، وما يحمله أيضاً من تنوع في العادات والتقاليد وأنماط السلوك.. واحتمال وجود مجموعات من الناس متطرفة عن الوسط العام، ويعد الوطن العربي غنياً بهذه التنوعات التي أنتجتها تجارب عديدة، فالخصوصيات التاريخية المعاصرة في بلاد الشام، وقضايا الصراع العربي الصهيوني أنتجت لدى السكان اتجاهات وميول وأفكار مختلفة نسبياً عما هو سائد في بلاد المغرب العربي، وبلاد الرافدين، أو الحجاز، أو اليمن، على الرغم من وحدة الثقافة السائدة في مجمل المنطقة، وهي الثقافة العربية غير أن الرؤى الاجتماعية للقضايا وطرق معالجتها مختلفة تماماً، ويظهر هذا الاختلاف حتى في البلد الواحد والدولة الواحدة، وتعد تجربة الشعب الفلسطيني نموذجاً واضحاً عن التنوع في طريقة الاستجابة.. مع الاعتراف أن فرق الصراع متفقة من حيث المبدأ ومن حيث النتيجة على أن الكيان الصهيوني يشكل الخطر الأكبر على الشعب الفلسطيني، والقضية الفلسطينية بما في ذلك قضية القدس والأقصى الشريف. 
·                وجود تحديات فكرية واجتماعية وثقافية وتيارات عديدة تقدم رؤى مختلفة ومتنوعة عن الواقع وكيفية التفاعل معه، وكيفية التأثير فيه، فإذا أجمع العرب مثلاً على مخاطر العدوان الصهيوني الراهنة والمستقبلية على القدس، غير أنهم يختلفون حول الطريقة الأفضل للتعاون مع الكيان الصهيوني، وتراوح مواقفهم بين المواقف بين المؤيدين بشدة لنهج المقاومة واستمرارية الكفاح المسلح، وبين المواقف الداعية لاستمرارية الحوار والحفاظ على استمرارية المفاوضات لكون هذه المسار خيار استراتيجي لا يجوز المساس به، وينطبق الأمر على التحديات الأخرى المختلفة، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية، إذ يلاحظ من يتتبع الأوضاع الفكرية والثقافية السائدة في المجتمع العربي الراهن، يجد بوضوح أن المشكلة ليست في إدراك التحديات التي تهدد أمن المجتمع واستقراره، إنما هي في كيفية التفاعل مع هذه التحديات، وكيفية الخلاص منها. 
·                وجود جماعات مختلفة من السكان يمكن أن تتلقى أفكاراً متناقضة وتتمثلها في وعيها ومشاعرها وأحاسيسها.. وتأخذ بالدفاع عنها، فعملية الانفتاح مع الغرب وتعميق عملية التواصل معه أوقعت الكثير من المثقفين العرب بما يسمى حالة الانبهار به، أو الاستلاب، وأصبحوا ينظرون إلى التجربة الغربية على أنها تجربة كاملة بما تحمله من خصائص وسمات.. وقد دفعهم ذلك إلى تسويغ الدعوة إلى الانفتاح نحو الغرب والتواصل معه لما في ذلك من منافع تعود على المجتمع العربي برمته، فالتخلي عن الكثير من العادات والتقاليد والأفكار والاتجاهات (وخاصة تلك التي تعد بنظر المتشددين خصوصيات لا يجوز التخلي عنها) بات ضرورياً، وأن العالم يسير بقوة وسرعة، ولا يرحم من يتخلف عنه، لاعتبارات تتصل بهذه العادات والتقاليد والأفكار..، وفي ضوء تصورات هذه الشريحة من السكان يعد كل ما يأتي من الغرب جميلاً، ورائعاً، حتى مواطن الخلل في بنيته الاجتماعية، وخروجه الصريح عن مبادئ الشرع الحنيف. وإلى جانب ذلك ما زالت تنتشر جماعات أخرى من السكان تعيش في حالة أشبه ما تكون بحالة “الاستلاب بالماضي” أو “الانبهار” به، فقد شكلت وفق معايير تجربتها نموذجاً للمجتمع لا يمكن تغييره على وجه من الوجوه، ولا يمكن التخلي عن أي من عناصره لما في ذلك من تهديد للهوية والثقافة والدين، فكل مظهر من مظاهر التنمية والتطور والتقدم الاجتماعي تصبح في نظر هؤلاء خروجاً عن الهوية، ومعاداة للإسلام.. ويدل ذلك كله على أن المجتمع العربي مازال يحتضن الكثير من المتطرفين الذين خرجوا عن الوسطية وتخلوا عن مبدأ “لاتفريط ولا إفراط في الدين” 
·                استخدام العواطف والمشاعر وتوظيفها سياسياً واتخاذ المواقف المناسبة لها، إذ تعمد الاتجاهات المتطرفة في طريقة تفاعلها مع التحديات الفكرية السائدة إلى الاستفادة من المفكرين والباحثين الذي يتفاعلون مع العواطف والمشاعر والأحاسيس أكثر من اعتمادهم التحليل العلمي والمنطقي للأحداث، ذلك أن الحجج والبراهين المنطقية لا تسعفهم في البرهنة على مواقفهم، مما يدفعهم إلى توظيف مشاعر الناس وأحاسيسهم وإثارة حماسة الشباب ودفعهم إلى ممارسات لا تتوافق والغايات التي يتطلعون إليها، فيستفيد منظرو التطرف ودعاته من الرغبة القوية لدى شريحة الشباب لجذبهم ودمجهم في بوتقة العمل ضد الأوضاع السائدة، وتحرير المجتمع من المفاسد التي يعيشها كما يصورونها لأتباعهم، ويستفيد هؤلاء في الكثير من الحالات من قوة الروابط المعنوية التي تميز المجتمع العربي عن غيره من المجتمعات، فالروابط العاطفية أشد قوة من روابط التفكير المنطقي أو النفعي، وخاصة مع اقترانها مع روابط القرابة، ولما كانت بنية المجتمع العربي، في معظمها، مبنية على الروابط القرابية والعاطفية والأخلاقية والدينية.. فإنه من اليسير انجذاب أبنائه إلى هذه الروابط دون تحليل منطقي لما يمكن أن يترتب عليها من نتائج تمس أمن الدولة والمجتمع، في حين تتجه القوى الاجتماعية والسياسية الأكثر اعتدالاً ووسطية إلى تفعيل دور العقل، وتنمية قدراته في تحليل الأحداث وتوضيح ما يهدد وحدة المجتمع العربي وتماسكه، لذلك يلاحظ أن دعاة التطرف بشقيه يحاولون بناء نماذج وتصورات فكرية تتناسب مع بنية المشاعر والعواطف والأحاسيس الدينية تارة والقومية تارة أخرى، والسياسية تارة ثالثة.. لتجييش الشباب ودمجهم في مسارات التطرف بأشكاله المختلفة. 
·                قدرة الدولة على ضبط الانحرافات والمحافظة على الوسطية في التعامل الاجتماعي والسياسي والديني.. ذلك أن الرؤية الشمولية لمصالح المجتمع لا يمكن أن تنبعث من رؤى ضيقة لا تأخذ بالاعتبار الخصوصيات التاريخية والاجتماعية والثقافية لمكونات المجتمع، وعلى قدر ما تستطيع الدولة تحقيق هذه الرؤية على قدر ما تجد أفراد المجتمع يلتفون حولها ويدافعون عن مصالحها التي هي من حيث النتيجة مصالح المجتمع برمته، ومن الطبيعي أن يؤدي انحراف الرؤى التي تتبناها الحكومات عن الوسطية إلى ظهور قوى اجتماعية متطرفة في مواقفها مستفيدة من التطرف الموجود لدى الحكومات في كثير من الأحيان، لهذا تقع على عاتق الحكومات والدول أن تكون أكثر واقعية في تفاعلها مع تحديات العصر، وأكثر استيعاباً لما يترتب على هذه التحديات من مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة، خاصة وأن عدداً كبيراً من الأفراد الذين يغرر بهم يمكن أن ينجرف مع التيارات المتطرفة ويندفع إلى اتخاذ مواقف اجتماعية ودينية وسياسية تقع على الطرف النقيض من مصالحه التي يتطلع إليها، وينشد تحقيقها، مما يجعل استيعاب الأبناء وتوجيههم التوجيه الصحيح من خلال المؤسسات الدينية والتعليمية والتربوية وسن القوانين الضابطة لسلوكهم ضرورة استراتيجية لتحقيق الأمن الفكري وحمايته، فالحكومات التي تتفاعل مع الأحداث من خلال رؤى ضيقة، أو تعكس وجهات نظر محدودة لا ترقى إلى مستوى الرؤية الشمولية لمصالحها القريبة والبعيدة غالباً ما تكون سبباً لمزيد من مظاهر التطرف الاجتماعي والديني والسياسي، بينما تستطيع الحكومات والدول الأكثر وسطية التحكم بسيرورة الأحداث وضمان مصالح أبنائها على المدى القريب، والمدى البعيد. 
·                الموقع الذي يشغله رجال الفكر والثقافة في بنية المجتمع والدولة، فالفكر المتطرف لا يمكن أن يجابه إلا بالفكر الوسطي والاعتدالي الذي يبين للرأي العام وللشباب بصورة عامة مخاطر الانجراف مع التيارات المتطرفة، وبعدها عن الصواب، وعلى قدر أهمية المواقع التي يشغلها المفكرون والعلماء والباحثون على قدر ما تأتي قدراتهم في التحليل والتفنيد والتوضيح، وعلى قدر ما يصبح في مقدورهم تقويم الانحرافات الفكرية والتصدي للتحديات التي تستهدف وحدة الأمة وتماسكها وترابط مكوناتها، ذلك إن قدرة الباحثين والمفكرين على رد الشبهات وتفنيد الحجج الواهية التي يأتي بها المتطرفون بأفكارهم، إنما هي رهن بما يقدمه لهم المجتمع من دعم معنوي وأدبي وفكري، بالإضافة إلى الدعم المادي الذي يوفر إمكانية كبيرة لهم في استقطاب الشباب والشرائح الاجتماعية المختلفة المهددة بالانجراف الاجتماعي، كما يسهم تنوع رجال الفكر في اختصاصاتهم المعرفة في توضيح مخاطر التطرف المتنوعة، خاصة وأن مجالات الخطر تمس الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى تنوع مظاهر التطرف أيضاً، التي باتت لها جوانب متعددة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. 
·                ويضاف إلى ما سبق دور الأسرة المتضامن مع التيارات الوسيطة والمعتدلة.. فأرباب الأسر من حيث النتيجة إن هم إلا أبناء المجتمع يتأثرون بما هو سائد من تصورات وأفكار واتجاهات، ومع ذلك فإنهم أكثر استقراراً وتوازناً في سلوكهم وأنماط عيشهم، مما يجعل مسؤوليتهم نحو أبنائهم كبيرة، من حيث الاهتمام بحاجاتهم الفكرية والروحية والمعيشية من جهة، ومن حيث متابعة شؤونهم ومعرفة أوضاعهم وطبيعة علاقاتهم مع أقرانهم وأصدقائهم في المدرسة والجامعة والحي وخلافه.. وعلى قدر ما يستطيع أولياء الأمور تطوير عمليات التواصل مع أبنائهم، ومد جسور التفاعل معهم على قدر ما يشكل ذلك حصنا قوياً يحمي الأبناء من الانجراف مع التيارات المتطرفة، وعلى قدر ما يبتعد الآباء عن أبنائهم على قدر ما تأتي روابطهم مع أسرهم ضعيفة، وعلى قدر ما تأتي روابطهم مع الأقران قوية، ولهذا تشكل جماعات الأقران في كثير من الأحيان قوة اجتماعية لا يستهان بقدراتها، تستطيع جذب الأبناء ودفعهم إلى ممارسة أعمال وأفعال من شأنها أن تجعلهم على استعداد كبير للانجراف مع التيارات المتطرفة، وخدمتها استجابة لما يفرض عليها من سلوك. 
     إن التحديات الفكرية والثقافية والاجتماعية المتنوعة التي يشهدها المجتمع العربي الراهن تقتضي توفير مزيد من الاهتمام بقضايا الأمن الفكري لكونها تمثل المدخل الموضوعي لمظاهر اختراق الثقافة العربية، والمنظومات الفكرية الوسطية التي أخذت الشريعة الإسلامية بالانتشار من خلالها في مختلف بقاع العالم، ولم يكن التطرف الفكري بأشكاله المختلفة في يوم من الأيام إلا واحداً من المعوقات الأساسية التي تحول دون تحقيق عمليات التطور، وتحول دون تحقيق بناء المجتمع الذي يستطيع التفاعل مع المستجدات الحديثة والمختلفة بكفاءة عالية، وفي ضوء هذه الاعتبارات تكمن ضرورة الاهتمام بقضايا الأمن الفكري على مستوى المجتمع العربي بكليته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق