أولوية البعد الثقافي في بناء المستقبل العربي المنشود

في التقرير الاستراتيجي العربي الصادر سنة 2001 عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في القاهرة، لمؤلفه الدكتور وحيد عبد المجيد، يجد مقدم التقرير أن أهم تطور حدث في المنطقة العربية عام 2000 يتمثل في سقوط صيغة أوسلو كإطار للتسوية في الصراع “الفلسطيني- الإسرائيلي” وهو الأمر الذي سيؤثر في أحداث المنطقة لاحقاً. ويجد صاحب المقدمة أن فشل مشروع التسوية لايفسر التراجع الاقتصادي والسياسي في الوطن العربي، ذلك أن الأداء العربي في الوقت الراهن ليس مؤهلاً لتحقيق نهضة على أي صعيد، وأن تأخر تحقيق السلام لا يتعلق بالعجز عن تحقيق إصلاح حقيقي في المفاتيح الأساسية للنهضة وفي مقدمتها الاقتصاد والتعليم. ويلاحظ صاحب المقدمة أم الجماعات السياسية والاجتماعية ليست بحال أفضل مما هي عليه الحكومات، فأداؤها هي الأخرى لا يقل ضعفاً عن الأداء الرسمي، كما ظهرت هشاشة الأحزاب السياسية العربية في مجموعة الدول التي جرت فيها انتخابات كمصر والأردن واليمن والمغرب وغيرها..
والمسألة التي تستوجب الاهتمام بالفعل، والتي يتضمنها التقرير، هي المسألة التي أشار إليها عالم الاجتماع الإيراني الدكتور علي شريعتي، والمتمثلة بضرورة تحديد طبيعة المرحلة التاريخية التي يعيشها المجتمع العربي والإسلامي في الوقت الراهن، فقبل أن نبدأ بأي عمل أو نتفوه بأي حرف لا بد من أن نعرف أن أعظم مسؤولياتنا وأكثرها فورية أن نرى نحن المسلمين والمجتمعات الإسلامية في أي مرحلة من مراحل التاريخ نعيش؟ . هل نعيش في واقع القرن العشرين الأوروبي حتى نقبل حلوله كحلول لنا ونصير مترجمين لكتاب أوروبا وربما أصحاب المدارس الفكرية فيها وأيدولوجياتها. هل نحن نعيش عصرا صناعيا وأصابتنا بعض آلام العصر الصناعي؟ هل وصلنا إلى مرحلة البورجوازية الكبرى؟ هل ابتعدنا عن سيطرة الدين على سواد الناس؟ هل ثقافة مجتمعاتنا ثقافة صناعية عقلية؟ هل نحن في العصور الوسطى؟ هل نحن في عصر الإصلاح الديني؟ هل نحن في عصر النهضة أو الثورة الفرنسية الكبرى؟ إذن ينبغي علينا منذ البداية أن نحدد في أي مرحلة من مراحل التاريخ نعيش، حتى تتضح الحلول بالنسبة للمفكرين ويبدو للناس دورهم”.
بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن شرعت الدول العربية بالإعلان عن استقلالها السياسي دولة بعد دولة، راحت كل واحدة منها تطور مشروعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي تبعاً لخصوصية التجارب التي شهدتها في تلك الأثناء، ففد أخذت دول عربية عدّة بتطبيق تجربة السلطة السياسية كما هي في الغرب الرأسمالي نفسه مع تعديلات يرى أصحابها أنها توافق الخصوصيات الثقافية والحضارية للمجتمع العربي، وأخذت مجموعة أخرى بتطبيق تجربة السلطة كما هي في المجتمعات الاشتراكية والشيوعية مع الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات التاريخية والثقافية للمجتمع العربي. وبرغم أن الدولة العربية بصورة عامة كانت تلاقي معارضة قوية من قبل الدول العربية المجاورة لها تارة، و من قبل مواطنيها تارة أخرى، غير أن وضوح المسار التي أخذت به جعلها تسير بقوة وفق ماتقتضيه خصوصيات المشروع السياسي والثقافي والاجتماعي التي اعتمدته الدولة إطاراً عاماً لعملية التغيير.
لم تجد الدولة العربية آنذاك معاناة كبيرة في اختيارها للقرارات السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية المناسبة لمسارها العام، فكانت إمكانية التمييز بين الصالح والطالح واضحة تمام الوضوح في عقلية صاحب القرار. ذلك أن المعايير التي يعتمدها لاتخاذ القرار المناسب مبنية على تصور استراتيجي شامل مستمد من طبيعة المشروع الذي يحدد موقع المجتمع من مراحل التطور الاجتماعي والاقتصادي. فحيث كانت تسود الرؤية الرأسمالية على أنها تمثل الرؤية النموذجية للتطور الاجتماعي، كانت القرارات رأسمالية بصورة واضحة، ولا تحتاج إلى أي اجتهاد، وحيث كانت الرؤية الاشتراكية تعد هي الرؤية النموذجية للتطور، كانت القرارات مبنية على أساس عمليات التحويل الاشتراكي أيضاً، وكانت البدائل والخيارات المطروحة أمامه واضحة تماماً.
ولم يكن ذلك يخص المعنيين باتخاذ القرار على المستويات القيادية العليا فحسب، بل كان واضحاً لدى المعنيين بتنفيذ القرار في أبسط صوره وأشكاله. حتى أن المعايير التي تستخدم للتمييز بين القرارات الصالحة والقرارات الطالحة كانت واضحة تماماً حتى لدى صغار الموظفين، والعاملين في القطاعات المختلفة، بما في ذلك العاملين خارج القطاع الحكومي. وامتد الأمر في تلك الأثناء إلى أن أصبح المستهلك والمنتج يدركان أيضاً ما ينبغي أن يقومان به إزاء مجتمعهما ودولتهما بالشكل الذي يساعد في تحقيق عملية التغيير الاجتماعي والانتقال إلى المجتمع الأكثر تطوراً.
وبرغم أن تمثل المشروع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لم يكن متماثلاً بين الأفراد، غير معاييره واضحة في ذهن الجميع، فتمثل قيم المجتمع الرأسمالي يفع الأفراد إلى رفض كل ما يتصل بالمشروع الاشتراكي دفعة واحدة، كما أن تمثل المجتمع الاشتراكي يدفع الأفراد إلى رفض كل ما له صله بالمجتمع الرأسمالي دفعة واحدة أيضاً. وحتى مع غياب التمثل لقيم هذا المجتمع أو ذاك، فإن ما يناسب المجتمع الاشتراكي يعد معروفاً بين الجميع، وكذلك ما يناسب المجتمع الرأسمالي أيضاً.
وبصرف النظر عن سلامة النموذج الرأسمالي أو سلامة النموذجي الاشتراكي، فإن الأفراد والدول كانت تسير بوعي أن هذا المسار يؤدي بمجتمعها إلى نتيجة ما، وأن هذه النتيجة صحيحة تماماً بالنسبة إلى الفاعل. لذلك لم يكن أي من الفاعلين يتردد في اتخاذ ما يراه مناسباً في ضوء تصوره العام، وبرغم التغيرات الكبيرة التي شهدها المجتمع العربي منذ ذلك، غير أن صورة المستقبل بالنسبة إليه لم تكن غائبة، أو مضطربة، لقد كان يؤمن بنموذج يسعى إليه بكل قوته، ويدافع عنه بثقة وطمأنينة، فإن قتل دون هدفه كان شهيداً، وتدون له جماعته مآثره، وتخلد ذكره.
أما اليوم فيبدو أن المشكلة أكثر تعقيداً، لقد غاب النموذج في وعي الناس، وفي وعي المعنيين باتخاذ القرار أنفسهم، ولهذا غابت القدرة على التمييز بين الصالح والطالح، والمشكلة أنه مع غياب النموذج تصبح تقييمات السلوك وأنماط الفعل، وأشكال القرار مبنية على اجتهادات شخصية لا يجمعها جامع، ولا يؤلف بينها توجه. فما هو صحيح بالنسبة لمثقف يعد باطلاً بالنسبة على مثقف آخر، وما يخدم القضية العربية برأي سياسي يخدم أعضاءها برأي سياسي آخر. وما هو ضروري بالنسبة إلى عملية التنمية لدى اقتصادي بعينه يعد عاملاً من عوامل التخلف برأي اقتصادي ثانٍ، وبلغ الأمر حداً أصبحت فيه الدعارة مصدراً لتشجيع السياحة وإنماء الدخل القومي، والترخيص بتعاطي الخمور في الشوارع والساحات العامة مظهراً من مظاهر الحرية، وجعل المرأة سلعة من أرخص السلع في المحطات الفضائية مظهراً من مظاهر التقدم والرقي الاجتماعيين.
في ضوء أية معايير أصبحت هذه المظاهر دليلاً على صحة المسار الذي يأخذ به المجتمع العربي الراهن؟، وفي ضوء أي نموذج يمكن الحكم على صلاحية هذا السلوك أو ذاك؟.
وليس أدل على ذلك من المسألة التي أثيرت في معظم الدول العربية حول مقاطعة المنتجات الواردة من الولايات المتحدة، حيث ذهب عدد كبير من المفكرين إلى ضرورة ذلك، على أنه شكل من أشكال التأييد للشعب العربي في فلسطين، في حين ذهب عدد آخر إلى ذلك لن يغير في الأمر شيئاً، وأن المطلوب من الدول العربي ما هو أكبر من ذلك. ولكل من الفريقين رأيه وحججه في ذلك، غير أن المشكلة تبقى كما هي: كيف نتعامل مع عدونا؟
إن النموذج الذي يمكن أن يساعدنا في تجاوز مشكلاتنا ليس معقداً، ولا هو غائب تماماً، إنما هو مغيب بفعل التدخل الخارجي ضده، وبفعل العمليات المعقدة التي يراد منها تشويهه كلياً، حتى بات العدد الكبير من دعاته يشكك في سلامته. وفي ذلك ما يدل على أبرز مظاهر الاختراق الثقافي والحضاري لمجتمعنا. إن الثقافة العربية الإسلامية تميز بدقة ما يجب اتباعه، وما ينبغي تجنبه، وخاصة في المسائل السياسية، وهي النموذج الذي يراد تقويض دعائمه حتى تتعزز مظاهر البعثرة والتشتت في مكونات الأمة، ويسهل على أعدائها السيطرة عليها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق