قوة العمل و التنمية الصناعية في المجتمع العربي

تكشف أدبيات علم الاجتماع الصناعي، عن مقومات التصنيع الحديث في ثلاثة أبعاد أساسية يتشكل في سياقها الأساس الاجتماعي للصناعة والمجتمع الصناعي، وتتمثل هذه الأبعاد في القاعدة المادية الاقتصادية، كاستثمار رؤوس الأموال والمواد الأولية والطاقة والنقل وغيرها.. وفي العامل السكاني وتوزيعات قوة العمل على فرع ونشاطات الاقتصاد الوطني، وبالتقدم العلمي والفكري والثقافي في المجتمع(1).
     وينتج التعامل بين المكونات المذكورة ما يسمى بالأساس الاجتماعي لعملية التصنيع والمجتمع الصناعي، حيث ينخرط الناس في قطاع الصناعة التي تسخر العلم لنموها، إضافة إلى عمليات التراكم الرأسمالي الكبير، وتفرض عليهم أنماطا محددة من السلوك وعادات من العمل تتواءم ومصادر عيشهم الجديدة وتفاعل والصلات الاجتماعية بما يحق مزيدا من التطور الصناعي.
فالأساس الاجتماعي لعملية التصنيع وتشكل المجتمع الصناعي يفوق عوامل تكونه، وهو ليس المجموع التراكمي لها. ولا يكمن بالتطور الاقتصادي للصناعة وتطوير وسائل إنتاجها وحسب، إنما بتطور العلم والخبرة الفنية والتخصص وتحويل القسم الأكبر من قوة العمل إلى قطاع الصناعة والقطاعات المرتبطة به كالنقل والبناء والتشييد..
وتبرز في سياق التخطيط والتنمية أهمية رسم الصورة الاجتماعية للتغير من خلال تحديد وجهة التغيرات المزمع أحداثها في البيئة الاقتصادية والتركيب الاجتماعي(2) إضافة إلى تحديد العلاقة بين المتغيرات والأبعاد المشار إليها لبلورة الوظائف العضوية التي تؤديها في عملية التنمية الصناعة ومدى قدرتها على أحداث التغيرات في المجتمع العربي خلال العقدين الأخيرين من عام من عام 1960 وحتى 1980.
أن الدور الوظيفي لقوة العمل الصناعية في تشكيل الأساس الاجتماعية للصناعة الحديثة يكمن في كونها تشكل المدخل الذي تلجه الصناعة للتأثير في المجتمع، فهي بوابتها إليه، وبتزايدها مع ارتفاع حجمها إلى مجموع السكان تتزايد قدرة الصناعة لتكوين الأساس الاجتماعي للتقدم الاقتصادي والصناعي، وبضعفها يتضاءل هذا التأثير. فمع ارتفاع نسبة العاملين في القطاع الصناعي في المجتمعات الصناعية، تتكون القيم والأفكار والإيديولوجيا بما ينسجم والقاعدة المادية الأساسية لحياتهم، ولما كانت نسبتهم إلى مجموع السكان كبيرة إذا ما قورنت بحجم العاملين في الزراعة. فإن تأثيرهم في المجتمع سيكون أرحب. فقد بلغت نسبتهم في كل من الاتحاد السوفييتي وألمانيا الديمقراطية وبريطانية وألمانية الاتحادية والولايات المتحدة نسبة (42%) من إجمالي قوة العمل مقابل (17%) فقط للزراعة، بموجب إحصائيات عام 1960 وفي عام 979 انخفضت قوة العمل الزراعية إلى (7%) مقابل ارتفاعها في قطاع الخدمات إلى (50%) و(43%) للصناعة(3).
     ومع التطور الصناعي الكبير أخذ هذا النشاط يطبع النشاط الاقتصادي بطابعه الخاص والمميز حتى أخذت الزراعة والتجارة وفروع الخدمات المتممة تتسم بسمات وخصائص الاقتصاد الصناعي، ولا غرابة في أن ينعكس ذلك على العاملين في هذه القطاعات وعلى قيمهم وأفكارهم وتصوراتهم وأنماط عيشهم .
أما في الوطن العربي فلم تتجاوز نسبة العاملين في الصناعة (17%) فقط من إجمالي قوة العمل عام 1960 مقابل (54%) للزراعة، وفي عام 1978 أي بعد مضي عقدين من عمليات التنمية أصبحت قوة العمل الصناعية بحدود (23%) مقابل (38%) للزراعة، وقد توافق هذا التوزع مع التغيرات التي طرأت على بنية الاقتصاد الوطني، حيث اتجهت خطط التنمية منذ ذلك الحين نحو تعزيز مساهمة الصناعة في الناتج المحلي وبصرف النظر عن الاهتمام بالبعد الاجتماعي لعملية التصنيع.
بيد أن التغيرات التي طرأت على توزيع قوة العمل نتيجة للتنمية الصناعية كانت تلقائية واستجابة للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية ولم تكن وفق تخطيط متكامل وكانت أسيرة للتطور التكنولوجي الذي امتص احتياجاته الأساسية من قوة العمل وتحكم بحجمها وتوزعها تاركا وراءه المشكلات الناجمة عن الخلل الذي أحدثته عملية الامتصاص.
إن السعي وراء التصنيع وتشكيل الأساس المادي والأساسي للتنمية الصناعية دون الاهتمام بالمقومات الاجتماعية وكيفية تشكلها في سياق التنمية يؤدي إلى تبعية الاقتصاد للخارج علاوة عن الخلل الذي يصيب بنيته، وبمعنى أخر أن التطور الاقتصادي للصناعة لا يعني بالضرورة تطور المجتمع وتقدمه إلا في إطار شروط ومقومات اجتماعية معطاة، وغياب هذه الشروط يجعل من النمو الاقتصادي دون الجدوى والفعالية الاجتماعية المطلوبة فعلى الرغم من ارتفاع قيمة الناتج المحلي العربي من (38) مليون دولار عام 1970 إلى ما يعادل (383) مليون دولار عام 980، ما زالت الدراسات تشير إلى استمرارية ضيق قاعدة توليد هذه الناتج مع التركيز الشديد لقطاع الصناعات الاستخراجية وعلى الرغم من ارتفاع مساهمة الصناعة بشقيها الاستخراجي والتحويلي في قيمة الناتج المشار إليه بحدود (55%) فإن عمال الصناعة لا يمثلون سوى (24%) من قوة العمل العربية و(7%) فقط من مجموع السكان البالغ (161) مليون نسمة بموجب إحصائيات عام 980.
ويبدو الخلل واضحا في بنية الاقتصاد إذا عرفنا أن نصف قوة العمل الإجمالية (48%) تعمل في الزراعة بينما لا يقدم هذا القطاع سوى (7%) من الناتج المحلي العربي(4).
إن التباين المشار إليه يدل على أن بنية الاقتصاد العربي غير متكافئة في العناصر المكونة لها، وهي ناجمة عن تطور غير مخطط للصناعة والأساس الاقتصادي وعن عدم الربط بين التنمية الصناعية، في بعدها الاقتصادي والتكنولوجي مع البعد السكاني والاجتماعي وهذا ما جعل الاقتصاد العربي اقتصاد تبعا لغياب ترابطه العضوي بالبيئة الاجتماعية والواقع السكاني علاوة عن الخلل الملحوظ في بنيته، ولعلل المقارنة بين البعد الاجتماعي والسكاني للصناعة والزراعة مع نسبة مساهمتها في الناتج المحلي تعكس هذا الخلل الكبير.
إن تحقيق استقلالية الاقتصاد العربي تتطلب تكافئه الذاتي أولا وارتباطه العضوي مع المجتمع، وهذه يستدعي وضع استراتيجية متكاملة للتنمية الصناعية تنصهر فيها عمليات التخطيط للتقدم بما يتيح لكل بعد بنائي أن يأخذ وظيفته ودره التنموي بما في ذلك قوة العمل الصناعية بحيث تأخذ فعاليتها التامة في عملية التغير الاجتماعي الشامل من خلال تطورها الكمي والنوعي معا.
     وهذا يتطلب من استراتيجية التنمية التوفيق بين تركيز قوة العمل في قطاعات صناعية محددة، وتركيز رأس المال والتكنولوجيا الحديثة في صناعات أخرى. بحيث يتحقق التوازن يبن الحاجة إلى استيعاب قوة عمل جديدة من ناحية وتطوير مساهمة الصناعة في اقتصاد الوطني والنتاج المحلي من ناحية أخرى وبذلك يتم إيجاد المقدمات الضرورية والموضوعية لنمو الصناعة والأساس الاجتماعي لها، فليست الصناعة بذاتها منفصلة عن التركيب والبناء الاجتماعي العام وبالتخطيط المتكامل تصبح قوة العمل أداة فعالة في عملية التنمية والتغيير وليس منفعلة سلبيا.

المراجع المستخدمة
1.           الصناعة والمجتمع مجلة الاقتصاد العدد (238).
2.           علم الاجتماع العام الجزء الأول منشورات جامعة دمشق 981 ، ص: (80).
3.           الإحصائيات مستخلصة من تقدير البنك الدولي عن التنمية في العالم لعام 981
4.       الاتجاهات الرئيسي في تطوير الاقتصاد العربي وبعض انعكاساته فكرية شؤون عربية، العدد (30).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق