الإنسان وقضايا المجتمع ومشكلاته


على الرغم من التطور الكبير والواسع الذي حققه الإنسان المعاصر في تلبية حاجاته، وتحقيق متطلباته، قياسا إلى أية فترة زمنية سابقة، وبرغم قدراته المتزايدة في السيطرة  على الموارد الطبيعية، التي يستطيع من خلالها استثمار من الطبيعة إلى أقصى ما يمكن، وما وسائل الاتصال والتواصل التي جعلت بلدان العالم متقاربة مع بعضها برغم كل المسافات التي تفضل بين أجزائه إلا دليلا على مستوى التطور المشهود، أما الحديث عن التطور التقاني في مجال التسليح والسيطرة على الفضاء فلا يمكن الإشارة إليها بعجالة، لقد أصبح التطور المادي يسيطر على كل مرافق الحياة.

غير أن هذا التطور المشهود والكبير مازال تطورا في بيئة الإنسان، وليس في الإنسان نفسه، بدلالة أن مظاهر الجريمة والقتل والاستحواذ والتسلط، ونهب ثروات الشعوب، مازالت بالقدر نفسه الذي كانت عليه قبل خمسة آلاف عام، بل من الملاحظ أن التحديات والمشكلات التي تجابه الإنسان أصحب أكثر خطورة من ذي قبل، وإذا كانت مصادر الخطر في الماضي تتمثل في الكوارث الطبيعية، من سيول وزلازل وبراكين، وغيرها.. ومن اعتداء الحيوانات المفترسة على الإنسان في الغابات والصحاري والمناطق المختلفة، فإن الخطر اليوم الأكثر في حياة الإنسان إنما يأتي من الإنسان نفسه، وبالتالي فإن هذا التطور التقاني الكبير لم يسهم حتى الآن في معالجة مشكلات الإنسان التي ترافقه منذ أن خلقه الله عز وجل في أرضه الواسعة.

إن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تجابه الإنسان منذ القديم، ومن الملاحظ أن ابناء البشر لم يتمكنوا حتى الآن من الحد من هذه المشكلات على الرغم من كل مظاهر التطور التي يتلمسها المرء في مجالات الحياة المختلفة، ويعود ذلك إلى أن المشكلة الحقيقية في ذات الإنسان وليست في البيئة المحيطة به، وهي مشكلة أخلاقية بالدرجة الأولى، ففي حين مازال العدد الكبير من أبناء البشر يعتقدون أن الإنسان من حيث النتيجة إن هو امتداد لسلسلة الحيوانات، التي تخضع فيها حياتها لقوانين الغابة، حيث البقاء للأصلح وللأقوى.. مما يشرع ضرورة التعامل مع الآخرين بالمنطق نفسه، فإذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، ويمثل هذا القول الأساس الي يبنى عليه سياسات الدول في الوقت الراهن، بصرف النظر عن أية قيمة أخلاقية أو إنسانية للسلوك.
وعلى طرف آخر مازال الأدباء والشعراء والمفكرون يحلمون بمستقبل أفضل للإنسان، ويعتقدون بأن ما يميز الإنسان هو ما يحمله في نفسه من قيم وأخلاق تجعله مميزا عن الكائنات الحيوانية، وبالقدر الذي يستطيع فيه البشر أن يتمثلوا في وعيهم الأبعاد الأخلاقية والإنسانية في سلوكهم بقدر ما يستطيعون تجاوز مشكلاتهم، وتحقيق التقارب بينهم، خاصة وأن عوامل الصراع المتمثلة في البحث عن الحاجات أصبح بمقدور الإنسان التحكم بها إذا ما فكر بالفعل في ذلك..
وبين هذين المسارين والاتجاهين الكبيرين في الحياة، يعيش أبناء البشر، وترافقهم مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفي الوقت الذي ينتج فيه البشر من ذوي النزعة الإنسانية قيمهم المتجددة وأخلاقياتهم التي تجسد إنسانيتهم، اعتقادا منهم بأن قوم الحياة إن هو إلا التعاون والتضافر لما يحقق حاجات الإنسان وغاياته، ويمكنه من السيطرة على الطبيعة بشكل أفضل واستثمار خيراتها ومواردها، يلاحظ أن الفريق الآخر من الناس الذي يجد نفسه امتدادا للكائنات الحيوانية، ويرى قوام الحياة في الصراع يعزز كل يوم أشكالاً من التناقض مع غيره من أبناء البشر، والسيطرة على خيراتهم، وكأن الأرض غير قادرة على أن تلبي إلا حاجات فئات محدودة من الناس، ولهذا فإن عليهم استحواذ هذه الخيرات بأي ثمن ممكن.
وعلى طرف ثالث ينشط فريق من الناس بغايات إنسانية، ومبادئ أخلاقية تعكس إنسانيته، ولكن تنقصه المعرفة التي تؤهله للقيام بما ينبغي القيام به، فيندفع لغايات إنسانية وأخلاقية ولكن بوسائل وأدوات قاصرة أحيانا ومشوهة أحياناً أخرى، مما يجعل نتائج عمله تأتي مناقضة لما كان يحلم به، ففي حين يتطلع إلى تحقيق الخير والسعادة للآخرين، ولكنه يستخدم أدوات ووسائل تجعله على تضاد معهم، وتناقض يؤدي إلى مزيد من الصراع ومزيد من المشكلات التي تجابهه، وتجابه غيره من الناس، وتكمن مشكلة هذا الفريق في المعارف التي يحكم من خلالها على الأشياء المحيطة بحياته، ويفسر من خلالها مشكلاته ومظاهر التناقض في حياته وحياة الآخرين.
إن مشكلات الإنسان، وفق هذا التصور مرتبطة بعاملين أساسيين، الأول الاتجاهات القيمية والأخلاقية والإنسانية التي تتفاوت بين البشر، فتزداد وضوحا بين بعضهم، وتتراجع بين بعضهم الآخر، مما يجعل تقييمهم للأشياء مختلفاً للغاية، وما هو صالح بالنسبة لبعضهم لا يعد كذلك بالنسبة إلى بعضهم الآخر، والمشكلة في هذا المجال هي مشكلة أخلاقية ووجدانية، أما الثاني فيرتبط بالمعارف التي يملكها الإنسان عن الأشياء المحيطة به، فقد يتمتع بحس أخلاقي رفيع، ولكن تنقصه المعرفة الكافية التي تؤهله لممارسة الفعل السليم، والمشكلة هنا مشكلة معرفية بالدرجة الأولى تتعلق بحجم المعارف والمعلومات لدى بني البشر.
وبذلك يمكن القول بأن الأخلاق والعلم هما جناحا التطور الإنساني، وبغيابهما لا يستطيع الإنسان بناء الحضارة التي ينشدها، فمن خلال تنمية الحس الأخلاقي لدى بني البشر تتضاءل مظاهر الصراع والحروب التي يأكل الناس بعضهم بعضا من خلالها، ومن خلال العلم يكتشف الإنسان الطرق والوسائل التي تضمن له تحقيق حاجاته على المستوى الكلي، وما من مشكلة تجابه الإنسان على المستوى الفردي، أو الجماعي، وحتى على المستوى الإنساني إلا وتكمن فيها جوانب من العاملين المشار إليهما، فإما أن تعود المشكلة إلى نقص في الجانب الأخلاقي والإنساني، مما يدفع ببعض الناس إلى تسويغ عدوانهم على بعضهم الآخر، أو بسبب نقص في المعارف والعلوم التي تدفع بني البشر إلى اختيار الطرق والوسائل غير المناسبة لتحقيق غاياتهم، مما يجعلهم في مشكلات تجابههم على المستويات كافة بحسب مستويات جهلهم.
وإذا كانت مشكلات الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تعود في مجملها إلى العاملين المشار إليها، وهي ترافقه منذ أن خلقه الله عز وجل في أرضه، فليس من المتوقع أن تظهر لها حلول في المدى القريب من حياة الإنسان، وإذا كانت العقائد الدينية عامة والسماوية بشكل خاص قد اعتمدت منهج الإصلاح الداخلي للإنسان، من خلال تنمية إحساسه الوجداني والأخلاقي للحد من تناقضاته، لكن المشكلة ظهرت بشكل جديد عندما أخذ بني البشر يلتفون حول العقيدة، ويعملون على توظيفها لمصالحهم وغاياتهم البعيدة كليا عن مضمون العقيدة ومبادئها، وسرعان ما أصبحت هذه العقائد وسائل جديدة لسيطرة بعض الناس على بعضهم الآخر، وطرق فاعلة في السيطرة لما يعززه الدين من عوامل الثقة بعلمائه ورجاله الذين جعلوا من أنفسهم رموزه، وقد بدا واضحا كيف أخذت تنتشر مشكلات اجتماعية جديدة في حياة الإنسان مع انتشار العقائد الدينية التي تم استخدامها في حروب واسعة تمت القضاء فيها على مئات الآلاف من البشر بذريعة الدين والدعوة إلى الإصلاح.
وفي المجتمع العربي المعاصر، تشكل القضايا الاجتماعية واحدة من القضايا التي تمتزج فيها مشكلات تتعلق بالفهم الاجتماعي للدين، فقضايا الزواج والطلاق والتنشئة الاجتماعية والميراث وحتى قضايا العمل والحقوق المتبادلة بين العمال وأرباب العمل لم تعد في المجتمع العربي والإسلامي بصورة عامة قضايا اجتماعية وحسب، ولا هي قضايا دينية وحسب، فقد تستخدم العقيدة الدينية في كثير من الأحيان لتسويغ أنماط من السلوك الاجتماعي الذي يتناقض بالأساس مع مضمون العقيدة، وقد يمارس الكثيرون أنماط من السلوك الاجتماعي الذي يسيء إلى الآخرين بنوايا حسن يعتقدون فيها أنهم ملتزمون من خلالها بأحكام الشريعة الإسلامية، المر الذي أدى إلى ظهور أنماط من التداخل بين العقيدة والعادات والتقاليد، بدلالة عدم وجود رؤية واحدة للمسلمين تخص أية قضية اجتماعية، وإذا كان ذلك فهو على الأغلب لا يجاوز المبادئ العامة، ومثال حجاب المرأة الذي يراوح بين أنماط من السلوك التي تعد مشروعة برؤى دينية وغير مشروعة برؤى دينية أخرى، ومع التحقق يلاحظ أن القضية مرتبط بالعادات والتقاليد الاجتماعية وليست بالعقيدة الدينية وحسب، ومن الملاحظ أيضاً أن هناك تغيرات كبيرة في المواقف الدينية من المسائل الاجتماعية، فقبل قرابة الخمسين عاماً فقط كان تعليم الفتاة في المدارس يعد خرقاً لأحكام الشريعة، وخروجاً عن العقيدة في الكثير من الدول العربية، ولكن اولئك الذين اقدموا على تحريمه في الماضي يتسابقون اليوم اليوم لتعليم بناتهم في المدارس والجامعات، وربما يدفعونهم إلى متابعة تعليمهن العالي خارج حدود بلادهم، ومن ثم  ودفعهن إلى سوق العمل، مع أن مثل هذا كان في عداد المحرمات في فترة قريبة، فهل تكمن المشكلة في مضمون العقيدة اليدينة بالفعل كما كان يتصور الكثيرون، أن أنها مرتبطة بالعادات والتقاليد التي نشأ عليها الإنسان العربي، حتى امتزجت قضايا التحليل والتحريم مع العادات الاجتماعية وبات من الصعوبة التمييز بين الحلال والحرام من جهة، وبين العيب من جهة أخرى.
وفي ضوء هذا التصور تكم أهمية البحث في القضايا الاجتماعية على امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي، مما يوجب على المفكرين والباحثين في المجالين الاجتماعي والديني التمييز بدقة بين ما هو اجتماعي توجيه العادات والتقاليد، وبين ما هو ديني توجبه العقيدة الدينية.

هذه هي مشكلات الإنسان، التي تنتج عن محاولات الكثيرين من البشر  استخدام الثقافة والمعرفة لمصالحه الضيقة في غياب المبادئ الأخلاقية والإنسانية، فتصبح أدوات للسيطرة والنفوذ والاستغلال، ولا يستثنى الدين من ذلك، حيث يصار إلى استغلاله في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع لما يحقق السيطرة والنفوذ والمنافع لجماعة من الناس على جماعات أخرى، وهذه هي مشكلات الإنسان الذي لا يمكن له بناء حضارته التي توخاها إلا من خلال جناحي التطور المتكاملين في مضمونهما الأخلاق والعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق