السياق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لعمل المرأة



يشكل عمل المرأة واحداً من الموضوعات الأساسية التي تحظى باهتمام الباحثين والمفكرين الاجتماعيين، بالإضافة إلى كونه واحداً من الموضوعات التي باتت تهم كل امرأة سواء أكانت في مجال العمل أو خارجه. وتزداد دعوة المفكرين والسياسيين والمصلحين الاجتماعيين إلى ضرورة مشاركة المرأة في النشاطات الاقتصادية والإنتاجية المختلفة لما يترتب على ذلك من نتائج إيجابية تمس واقع الأسرة بالدرجة الأولى، وواقع المجتمع والمؤسسات الإنتاجية فيه بصورة عامة.


غير أن الدلالات الاجتماعية لعمل المرأة تختلف بين الدعاة على نحو واسع، وما زالت تنتشر بقوة مجموعة كبيرة من الآراء والقيم والأفكار التي تحول دون مساهمة المرأة مساهمة فعالة، وتجعل مكانة المرأة ونجاحها مرتبطين بما تؤديه من وظائف حيوية في إطار أسرتها، وفي إطار سعيها لتنشئة أبنائها تنشئة سليمة. إلى جانب مجموعة من الآراء التي تدعو إلى عمل المرأة لما تنطوي عليه من دلالة ثقافية وحضارية بصرف النظر عن الظروف المحيطة بها، مما يجعل لعمل المرأة في كثير من الأحيان آثار سلبية في بنية الأسرة وتنشئة الأطفال.  فما هي الدلالات الاجتماعية لعمل المرأة في نظر أرباب الأسر؟ ولماذا تندفع المرأة إلى العمل، كما ينظر إلى ذلك العاملون أنفسهم؟.
ينطوي إقدام الفرد على ممارسة أي شكل من أشكال السلوك الإنساني على معنى اجتماعي يحدد الفرد من خلاله قيمة السلوك الذي يرغب به، ويفاضل على أساسه بين أنماط الفعل الممكنة، وأشكال السلوك المتعددة، وفي هذا السياق تأخذ مشاركة المرأة في النشاطات الاقتصادية، ودخولها مجال العمل المنتج معان ودلالات اجتماعية تختلف بين الأفراد باختلاف خصائصهم واتجاهات القيم الاجتماعية والمادية والجمالية بينهم.

و لا تنفصل القيمة الاجتماعية لعمل المرأة عن بنية الثقافة السائدة، فلكل سلوك يمارسه الفرد، بما في ذلك إقدام المرأة على العمل، ولكل فعل يقوم به، معنى محقق في ذات الفاعل من جهة، وفي بنية الثقافة التي ينتمي إليها من جهة أخرى، فمظاهر الاستياء والغضب والفرح والتفاؤل ليست إلا أنماط من السلوك تحمل في ذاتها معان مفهومة بالنسبة إلى الآخرين، وليست إلا وسائل تعبير يريد الفاعل من خلالها إيصال معناها إلى غيره من الأفراد الذين يدركون دلالاتها ويعرفون المعاني التي تحملها، وهذا ما يقصده الاجتماعيون بمفهوم النظام، ومتى شعر الفرد بأن السلوك الذي يمارسه أو يرغب في ممارسته لا يحمل بالنسبة إلى الآخر ذات المعنى المطلوب فإن تغيير السلوك يصبح أمراً لا مفر منه، وإذا لم يكن على معرفة بالسلوك المناسب لهذا المعنى وقع المرء في اضطراب لفقده القدرة على إيصال المعنى إلى الآخر، ولغياب قدرته على فهم لغة التفاعل الاجتماعي، الأمر الذي يقلل من شدة ارتباطه بالمنظومة الاجتماعية، وبالنظام الاجتماعي الشامل.
وفي إطار الدلالات الاجتماعية الممكنة لعمل المرأة يمكن التمييز بين ثلاثة اتجاهات أساسية يمكن تصنيفها على الشكل التالي:
1-      المجموعة الأولى تضم مجموعة النساء التي تجد أن اندفاع المرأة للعمل يأتي استجابة لحاجة اقتصادية ضمن الأسرة، وهو يسهم في تحسين المستوى المعيشي للأسرة (قيمة اقتصادية).
2-      المجموعة الثانية تضم مجموعة النساء التي تجد أن دخول المرأة مجال العمل المنتج يأتي لتعزيز مكانتها الاجتماعية بين أقرانها، وفي البيئة المحيطة بها (قيمة اجتماعية).
3-      المجموعة الثالثة:  تضم مجموعة النساء التي تجد أن مشاركة المرأة العمل تأتي نتيجة ما تحمله هذه المشاركة من قيمة جمالية بالنسبة إليها، بصرف النظر عما يترتب عليه من آثار إيجابية أو سلبية (قيمة جمالية).
أما فيما يتعلق بالآثار المتوقعة الناجمة عن عمل المرأة فتختلف اختلافاً كلياً بحسب الدلالات التي ينطوي عليها دخول المرأة ميدان العمل من جهة، وباختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعيشها الأسرة، فلا يمكن تقرير أن لمشاركة المرأة في النشاط الاقتصادي آثار إيجابية دائماً، ولا تقرير أن لدخولها ميدان العمل آثاره السلبية دائماً، فالأمر متوقف على المعنى الاجتماعي الذي عليه العمل بالنسبة إلى المرأة أولاً وعلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها المرأة ثانياً.

 ولاشك في أن دخول المرأة ميدان العمل الاقتصادي المنتج يترك آثار كبيرة وهامة في شخصيتها، ونمو خبراتها وتجاربها، فهو يمنحها تجربة تعيشها في الواقع، تتعرف من خلالها ظروف الحياة وملابساتها وجوانبها المختلفة، وتنمي قدرتها على كيفية اتخاذ القرار في المجالات المختلفة بما في ذلك جوانب الحياة المعيشية ضمن الأسرة، الأمر الذي يساعدها كثيراً في قدرة المرأة على معالجة المشكلات الاجتماعية الطارئة التي يمكن أن تجابه الأسرة في لحظة من اللحظات، ومن الطبيعي أن يترتب على ذلك مزيد من التماسك الاجتماعي ضمن الأسرة، ومزيد من التعاون بين الزوجين على اعتبار أن كلاهما مرتبط بالآخر ارتباطاً عضوياً كاملاً.

ومع ذلك فإن الآثار الناجمة عن نمو شخصية المرأة وقدرتها على الاستقلالية إثر مشاركتها في العملية الإنتاجية، تختلف ضمن الأسرة الواحدة باختلاف ظروف الأسرة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فإذا كان عمل المرأة مشروعاً (من الناحية الثقافية) بين الزوجين على حد سواء، وقد تم بالتنسيق والتشاور بينهما، ومن خلال إقرار مبدأ التعاون فمن الطبيعي أن يترتب على عمل المرأة ونمو شخصيتها آثار إيجابية عديدة تتجلى في وحدة الأسرة وتماسكها وتحسن مستوى معيشتها.

أما في حال اختلاف القيم والمعايير والدلالات التي ينطوي عليها عمل المرأة في الطبيعي أن الآثار ستأتي مختلفة، فخروج المرأة إلى ميدان العمل، ونمو شخصيتها، وتحسن قدرتها على اتخاذ القرار في ظروف عدم التوافق بين الزوجين، وفي ظروف دخول المرأة مجال العمل بدون تنسيق بين الزوجين، فإن آثاراً سلبية عديدة لا بد أن تظهر، وقد يؤدي دخول المرأة مجال في ظروف الاختلاف إلى تعميق الاختلافات، وتعميق التناقض بين الزوجين، الأمر الذي قد ينتهي إلى نهايات غير مرضية.

 وينطبق الأمر على الآثار المتوقعة في وضع الأطفال، فإذا توفرت الشروط الاقتصادية والاجتماعية لعمل المرأة فإن ذلك يترك آثار الإيجابية في الوضع الاجتماعي للأطفال خاصة مع تحسن مستوى المعيشة، وتحسن مستوى الخدمات التي تقدم لهم، أما في حال عدم توفر مثل هذه الظروف فمن الطبيعي أن تظهر الآثار السلبية المتعددة، فإذا ذهبت الأم لممارسة عملها وغادر الزوج المسكن للغرض نفسه وترك الأطفال لدى الجد يوماً، ولدى الجدة يوماً آخر، وعند الزوج تارة، وعند أهل الزوجة تارة أخرى، فمن المتوقع أن تكون النتائج السلبية لعمل المرأة أكبر من المردود الاقتصادي المتوقع من عملها، وأكبر من المردود الاجتماعي الذي يمكن يعود عليها بتحسن مكانتها الاجتماعية بين أقرانها وزميلاتها وصديقاتها.

وتدعو هذه الاعتبارات المختلفة إلى النظر لعمل المرأة بمعيار الحكمة، لا بمعيار القيمة، الأمر الذي يعني أن عمل المرأة لا بد أن يكون قرار أسرياً بالاتفاق والتعاون والتنسيق بين الزوجين، ولا يجوز أن يكون قراراً فردياً يأتي بدافع القيمة الاجتماعية لهذا العمل، فحماية الأسرة، وصيانتها، والعمل على تنشئة الأطفال تنشئة أخلاقية وسامية أكثر قدسية من عمل المرأة في غير موقعه، فإذا جاء عمل المرأة منسجماً مع طموحات الزوجين وبالاتفاق بينهما جاءت النتائج المتوقعة منه إيجابية وكبيرة، أما إقحام المرأة في ممارسة عمل إنتاجي لا يتوافق مع الشروط الاجتماعية للأسرة، ويمكن أن يهدد بنيتها والعلاقات الاجتماعية بين الزوجين، فإن من شأنه أن يكون عاملاً من عوامل الهدم الاجتماعي أكثر من كونه عاملاً من عوامل التطور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق