وسائل الاتصال الحديثة والتنشئة الاجتماعية للأبناء

يشكل الفرد، في أية لحظة من لحظات حياته كلاً متكاملا مكوَّناً من الجوانب العضوية والنفسية والاجتماعية والثقافية، بما في ذلك اتجاهاته ومشاعره وميولـه ومواقفه إزاء الأشياء والقضايا التي يتفاعل معها، فيميل إلى التأييد أو المعارضة، ويمتلك مشاعر الحب والعطف والحنان، إلى جانب مشاعر البغض والغيرة والحسد وغيرها.


والمجتمع على طرف آخر، هو نتاج كلي نوعي لتفاعل الأفراد، وليس مجموعاً تراكمياً لعددهم، فتسوده الأعراف والتقاليد والقيم والمعايير التي تنظم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وتجعل من الكل الاجتماعي تنظيماً بالغ التعقيد، تتحدد من خلاله الحقوق والواجبات المترتبة على الأفراد وتبدو واضحة في وعيهم من خلال المواقع الاجتماعية التي يشغلونها في بنية التنظيم، فيأخذ كل منهم موقعه ويدرك حقوقه وواجباته من خلال ذلك الموقع، وليس من اليسير على الفرد أن يقيم أية علاقة مع الآخر ما لم تكن مبنية على موقع محدد تتضح فيه طبيعة الحقوق والواجبات بالنسبة إلى كل من الذات والآخر في وقت واحد.


غير أن شغل المواقع الاجتماعية وما يترتب عليها من حقوق وواجبات ووعي الفرد بها لا يأتي على نحو اعتباطي، ولا يأتي في كليته دفعة واحدة، إنما بفعل عمليات التأهيل الاجتماعي التي تمارسها الأسرة، فتكسب الأبناء جملة من القيم والمعايير والأحكام التي يستطيع الطفل من خلالها تحديد موقعه في كل موقف وتحديد حقوقه وواجباته في حدود ذلك الموقع.


وعملية التأهيل بهذا المعنى تنطوي على بعدين أساسيين يتصل الأول بحاجات الطفل العضوية والنفسية والاجتماعية، ويتعلق الثاني ببنية التنظيم الاجتماعي الذي يستقر عليه المجتمع، ويتميز عن غيره من خلاله، وإذا كانت العملية الأولى تتشابه بين أفراد الجنس البشري، حيث يحتاج كل منهم إلى نمو عضوي ونفسي واجتماعي وأخلاقي ووجداني، غير أن العملية الثانية تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات والحضارات على نحو بالغ، وما ينطبق على مجتمع محدد أو ثقافة بعينها يختلف عما هو عليه في مجتمع آخر، وثقافة أخرى.


وإذا كانت العملية الأولى تعد حقاً طبيعياً للطفل، وعلى الأسرة والمجتمع توفير الشروط المناسبة لضمان الحدود الدنيا من حاجاته العضوية والنفسية والاجتماعية، فإن العملية الثانية يفرضها المجتمع على الطفل بغيه جعله عضواً فيه، فالطفل لحظة ولادته لا يكون عضواً في أي تنظيم اجتماعي، ولكنه لا يبقى كذلك لفترة طويلة، وهو غير قادر على أن يبقى كذلك في حياته المقبلة، ولهذا من حق مجتمعه أن يجعله عضواً من أعضائه، ومن حق أسرته أن تجعل منه واحداً من أبنائها، وغالباً ما يتحقق ذلك من خلال ما يسمى بعملية التأهيل الاجتماعي التي يراد منها إكساب الطفل مجموعة من المهارات والاتجاهات والقيم التي تجعل منه عضواً في المجتمع الذي ولد فيه، وليس في مجتمع آخر.


أ-             التأهيل الاجتماعي للأبناء:


التأهيل الاجتماعي هو مجموعة العمليات الاجتماعية التي تمارسها المؤسسات والأفراد لإكساب الأبناء القيم الاجتماعية والمعايير المحددة الأنماط لسلوكهم بغية إدماجهم في التنظيم الاجتماعي. ويختلف مفهوم التأهيل عن مفهوم التنشئة الذي يشير إلى مجموعة من العوامل المؤثرة في عملية إدماج الفرد ببنية التنظيم، وبذلك فإن مفهوم التنشئة أوسع في الدلالة لأنه يتضمن كل عمليات التأهيل بالإضافة إلى عوامل أخرى عديدة تأتي على نحو اعتباطي وغير إرادي في كثير من الأحيان، بينما تعد عملية التأهيل إرادية في كليتها، ومثال ذلك أن الأسرة التي تريد تعزيز مفهوم الفضيلة في نفوس أبنائها، تكافئهم إن اقتربوا منها، وتحاسبهم إن ابتعدوا عنها فهي تمارس معهم عملية التأهيل الاجتماعي، لتجعلهم مندمجين في الحياة وفق نظام اجتماعي محدد يتصف بجملة من السمات الحاضرة دائماً في وعي رب الأسرة وأفرادها.


أما تأثر الطفل بأنماط سلوكية يمارسها رفاقه في الحي أو المدرسة أو أي وسط اجتماعي أخر فيأتي من باب العوامل المؤثرة في تنشئته وليس من باب عوامل تأهيلية، لأن الغاية من ممارسة تلك الأنماط السلوكية إنما هي تلبية حاجات وقتية يشعر بها رفاق الحي أو رفاق المدرسة، وليست غايتهم تطبيع الفرد (الطفل) لنظام اجتماعي واضح في وعيهم.



وبالموازنة بين عمليات التأهيل الاجتماعي، وعمليات التنشئة يلاحظ أن وسائل الإعلام الحديثة تؤدي دوراً كبير الأهمية في عملية التنشئة، والمشكلة أن هذه العملية تأتي على تضارب مع عمليات التأهيل، فيشعر الآباء أنهم يعملون على تركيز جهودهم لتعزيز جملة من المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية في نفوس أبنائهم، غير أن هؤلاء سرعان ما يتأثرون بما يعززه الوسط الاجتماعي المحيط، وبخاصة ما تعززه وسائل الإعلام الحديثة والمتطورة، فتعزز في وعيهم ومشاعرهم جملة من القيم التي لم يحسب لها الأهل حساباً، ولم يكونوا متوقعين نفوذها إلى شخصية أبنائهم.


وما ينطبق على التوقعات التي تنشدها الأسرة في تربية أبنائها وتأهيلهم اجتماعيا وفق النمط الذي يتطلع إليه الأهل، ينطبق أيضاً على المؤسسات التربوية الكبيرة، والمؤسسات التعليمية المتنوعة، فالعملية التربوية تهدف بالدرجة الأولى إلى تكوين الفرد بالشكل الذي يصبح فيه عضواً في المجتمع، تتكامل وظائفه مع وظائف الآخرين بحسب موقعه في بنية التنظيم الاجتماعي، لكن عوامل التنشئة المتعددة، والتي تأتي وسائل الإعلام في مقدمتها، تحول دون إمكانية التحقق الفعلي لعملية التأهيل، فيتأثر الأبناء بجملة من القيم والاتجاهات والأنماط السلوكية التي تحول دون عملية التأهيل، وغالباً ما يؤدي التضارب في العوامل المؤثرة في التكوين الاجتماعي للأفراد إلى عرقلة العملية التربوية، وقد تؤدي هذه العملية إلى نتائج مختلفة تماماً عما هو مطلوب منها.

وتقع عملية التأهيل الاجتماعي في مستويات عديدة تختلف في أشكالها وطرقها باختلاف مراحل عمر الأبناء، فمنها ما يخص المرحلة الأولى من العمر، وتتصل بمرحلة الطفولة، ومنها ما يخص مراحل الفتوة والشباب، ومنها ما يخص التأهيل الأخصائي المتعلق بالتكوين المهني والوظيفي للأفراد.

ففي المرحلة الأولى من مراحل التأهيل الاجتماعي تأخذ الأسرة الدور الرئيسي في عملية إدماج الأبناء في الحياة الاجتماعية، فتعزز في نفوسهم مجموعة واسعة من القيم الاجتماعية والمعايير الأخلاقية، والمبادئ الثقافية والحضارية التي تجعل لكل منهم هويته التي يعتز بها، ويدافع عنها أثناء حياته. فإذا كان الإنسان مفهوماً مجرداً يستحيل وجوده بمعزل عن النوع والجنس والانتماء فإن عملية التأهيل الاجتماعي تجعله كذلك من خلال ما تعززه الأسرة من مشاعر وأحاسيس وعواطف تربطه بالحضارة التي ينتمي إليها، وبالعقيدة التي يتمثلها أجداده واللغة التي يحقق من خلالها عملية التواصل مع الآخر، فيشعر المرء مع اكتمال تأهيله أن جذوره تمتد إلى أعماق التاريخ الإنساني وهي تتجسد في الواقع من خلال أنماط السلوك التي يمارسها، من خلال القيم التي يؤمن بها، والمعايير التي يعتمد عليها في حكمه على صحة الأفعال الصادرة عن نفسه وعن الآخرين.

ويظهر الأثر البالغ للأسرة في كونها ترافق الطفل منذ أن يأخذ بالتفاعل مع محيطه الاجتماعي ومنذ أن يبدأ وعيه بذاته، فيتشرب القيم والمعايير والأخلاق خطوة بخطوة، ومرحلة تلو الأخرى، وقد سبق للرسول الكريم (ص) أن قال (يولد المولود على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه) وفي ذلك دلالة على أن الطفل يولد دون هوية ثقافية، ولا عقائدية ولكن أسرته تؤهله لكي يكون عضواً في المجتمع وفق معايير وأخلاق تختارها بنفسها، أو تخضع لاختيارها نتيجة العوامل الاجتماعية والثقافية والحضارية نفسها.

وفي المرحلة الثانية من مراحل التأهيل الاجتماعي تبرز أهمية المؤسسات الاجتماعية الرسمية منها وشبه الرسمية، ومن ذلك المؤسسات التعليمية، كالمدارس، والمعاهد، والجامعات... والجمعيات والنوادي والمنظمات وغيرها. وتأخذ عملية التأهيل الاجتماعي في هذا المستوى شكلاً أخر، فالفرد الذي أصبح عضواً في التنظيم الاجتماعي بفضل دور الأسرة وما قامت به من فعل لتعزز القيم والأخلاق وتعلمه اللغة وكيفية التواصل مع الآخر، يحتاج أن يصبح عضواً فاعلاً في بنية ذلك التنظيم ويؤدي وظائف حيوية بالنسبة إلى أسرته وإلى غيره من الأفراد وهو الأمر الذي تعمل على تحقيقه المؤسسات الاجتماعية التي سبقت الإشارة إليها



وتتميز عملية التأهيل الاجتماعي في هذا المستوى بأنها أكثر تخصصية، فهي تهدف لأن تجعل لكل فرد وظيفة تكافئ قدراته ويستطيع من خلالها ممارسة الفعل الاجتماعي الذي يحقق من خلاله عملية التواصل وتبادل المنافع مع الآخرين فيقدم لهم الإسهامات التي يمكن تقديمها، والخدمات القادر على تقديمها في الوقت الذي ينهل  منهم حاجاته ولوازم عيشه. لهذا يصبح الفرد بفضل المؤسسات الاجتماعية المحيطة به فاعلاً اجتماعياً، بعد أن أصبح عضواً في التنظيم الاجتماعي بفضل جهود الأسرة التي ينتمي إليها.

أما المؤسسات المتعلقة بالتأهيل الاجتماعي للأفراد في المراحل المتقدمة من العمر كمؤسسات التعليم العالي، والمؤسسات المتخصصة فتهدف إلى تنمية قدرات الأفراد على نحو خاص. ذلك أن التأهيل الاجتماعي في هذا المستوى يتجه نحو شريحة اجتماعية محدودة، تتصف بجملة من الخصائص التي تؤهلها لأن تؤدي أدواراً اجتماعية خاصة، وتقوم بمهام لا تستطيع الشرائح الاجتماعية الأخرى القيام بها.

وتكمن أهمية التأهيل الاجتماعي التخصصي في كونه يعمل على تكوين مجموعة من الأفراد الذين تقع على عاتقهم مسؤوليات توجيه الأفعال والنشاطات بالشكل الذي تتحقق من خلالها عملية التكامل والتضافر. إذ لا يكفي للفرد أن يكون قادراً على ممارسة الفعل الاجتماعي وحسب حتى يصبح هذا الفعل مفيداً واجتماعياً إنما لا بد أن يكون الفعل موجهاً التوجه الصحيح، ومكملاً للأفعال الأخرى، وتلك هي مهمة المؤهلين اجتماعياً على المستويات العليا.

وفي ضوء هذا التصور يمكن التمييز بين ثلاث مراحل للتأهيل الاجتماعي، تتحقق للفرد من خلال المرحلة الأولى عملية اندماجه في التنظيم الاجتماعي والحياة الاجتماعية حيث يتشرب قيم المجتمع وعاداته وتقاليده وقيمه، وذلك بفضل الأسرة. وفي المرحلة الثانية يصبح الفرد قادراً على أن يمارس الفعل الاجتماعي، ويأخذ موقعه المناسب في بنية التنظيم، وتلك هي مهمة المؤسسات التربوية والتعليمية. أما المرحلة الثالثة فأنها أكثر تعقيداً، لأنها معنية بتأهيل الأفراد المعنيين بتنظيم النشاطات والأفعال على النحو الذي يجعل منها متكاملة ومترابطة وتؤدي الغايات المرجوة منها، وأغلب هؤلاء من القادة، والإداريين والأطباء والمهندسين وغيرهم.

وفي سياق عملية التأهيل الاجتماعي هذه تؤدي وسائل الإعلام عامة، وبخاصة المرئية والمسموعة منها دوراً أساسياً في تعزيز هذه العملية أو في إحداث مظاهر واسعة من الخلل حتى يصبح الأبناء خارج إطار عملية التأهيل، وتعد وسائل الإعلام بصورة عامة، وبخاصة المرئية منها والمسموعة  الأغنية واحدة من الوسائل التي تنمي في شخصية الأبناء مجموعة واسعة من المشاعر والأحاسيس والعواطف التي تأتي متوافقة مع عمليات التأهيل أو مناقضة لها تبعاً لاتجاهاتها ومساراتها، واتجاهات القائمين عليها، ومن خلالها تحدث في الوقت الراهن عمليات الاختراق الثقافي الواسعة التي تشهدها البلدان النامية عموماً، ويشهدها المجتمع العربي بشكل خاص،     فمن خلال وسائل الإعلام تتعزز في شخصية الأبناء جملة المشاعر والأحاسيس والعواطف التي تجعل الفرد منشداً نحوها، وتصبح قضاياها قضاياه وهمومها همومه، ومشكلاتها مشكلاته، فتستحوذ على اهتماماته، وقد تصبح شغله الشاغل.

ب-           وسائل الإعلام وقضايا الأبناء في الأغنية العربية المعاصرة:

تستخدم وسائل الإعلام، وبخاصة المرئية منها والمسموعة الأغنية بوصفها وسيلة أساسية من وسائل الترويج لجذب انتباه المشاهدين والمستمعين بصورة عامة، ولجذب انتباه الشباب والفتيان من الأبناء بصورة خاصة، ويلحظ من يتتبع برامج الفضائيات العربية وبرامج الإذاعة المختلفة في الوقت الراهن يلاحظ أن الأغنية تسيطر على القسم الأكبر من المساحة، تاركة وراءها كل أنواع البرمجيات الأخرى بما في ذلك نشرات الأخبار، والتعليقات السياسية، والمسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية.

والمشكلة ليست في الأغنية نفسها، إنما في طبيعتها والمواضيع التي تتناولها، وهي تملك قدرة التوجيه غير المباشر للأبناء، وتعمل على تنمية مشاعرهم وأحاسيسهم بالشكل الذي يتضارب تماماً مع فلسفة التنظيم الاجتماعي، ومع عمليات التأهيل الاجتماعي، فالأغنية العربية، كما هي في الواقع الراهن، تقع على الطرف النقيض من عملية التأهيل الاجتماعي المشار إليها، وتسهم بشكل مباشر في نفي أية صفات يمكن أن تكسب الأبناء عضويتهم في المجتمع الذي ولدوا فيه، إنها باختصار تسلب عنهم هويتهم الثقافية والحضارية والقومية.

لقد باتت الأغنية في المجتمع العربي بصورة عامة رافداً أساسياً من الروافد التي تنمي الشخصية الفردية، وبخاصة بين قطاع الفتيان والشباب الذين يتطلعون إلى بناء ذواتهم، وأعمالهم، ومستقبلهم، وتزداد هذه الأهمية بصورة واضحة بين الفتيات والشابات بالموازنة مع ما هي عليه بين الفتيان والشباب، ذلك أن الفتيات بصورة عامة أسرع في الاستجابة للجديد في أنماط السلوك، وأشكال اللباس. وبرغم أن هذه التوقعات ليست مبنية على إحصاءات علمية دقيقة، غير أن الانطباع العام السائد في الوسط الاجتماعي يفيد بذلك، فالفتاة بصورة خاصة، والأنثى بشكل عام أكثر تأثراً بالوسط الاجتماعي، وأكثر ميلاً لتقليد غيرها من الفتيات أو الإناث.
وبالنظر إلى أن الأغنية تخاطب الأحاسيس والمشاعر عند الفرد، فمن الطبيعي أن يكون تأثيرها كبيراً في مجموعات الإناث بالموازنة مع تأثيرها في مجموعات الذكور التي تبدي قدراً كبيراً من المقاومة لما هو مستحدث من نماذج وأشكال وفنون، ومع ذلك فإن هذا التباين في استجابة الجنسين لما هو جديد لا يعني أن الذكور لا يتأثرون بالمحيط، أو بالعادات والتقاليد التي تنتجها الحضارة الحديثة، إنما يراد القول بأن استجابة الإناث هي بصورة عامة أكبر من استجابة الذكور.

وكما يختلف الذكور عن الإناث في أشكال استجابتهم لما هو جديد من الأغنية والأعمال الفنية، كذلك يختلف كبار السن عن الصغار، والمتعلمون عن غير المتعلمين، والأثرياء عن غير الأثرياء، الأمر الذي يدل على أن أثر الأغنية في تكوين الشخصية يختلف بين الأفراد بحسب خصائصهم وطباعهم، ودرجات نضوجهم النفسي والاجتماعي والأخلاقي والوجداني.

وتعود أهمية الأغنية بالنسبة إلى تكوين الشخصية بين الفتيات والفتيان إلى كونها تخاطب الجانب العاطفي في حياتهم، وتحاكي حاجاتهم النفسية التي لا تخضع لأي توجيه قيمي أو أخلاقي مما يجعل شخصية الفتى أو الفتاة غير مكتملة البناء من النواحي العاطفية والنفسية والاجتماعية والوجدانية، وتصبح شديدة الميل لمحاكاة ما هو جديد ومنتشر في الوسط الاجتماعي، لما يؤديه من وظيفة حيوية في عملية التكوين التي تحتاج إليها.

والمشكلة أن النفس البشرية تميل إلى التكوُّن بحسب ما يحاط بها من شروط عاطفية ونفسية واجتماعية، فهي لا تعرف الكمال المطلق، إنما تعرف الكمال الذي يتاح لها، ولهذا فهي لا تحكم على الأشياء وفق معايير مسبقة، إنما من خلال المعايير التي تتشكل مع عملية التكوين نفسها وترافقها، فتأتي شخصية الفرد مبنية على أنماط سلوكية مستخلصة من البيئة المحيطة، وعلى معايير أخلاقية واجتماعية تسوِّغ هذه الأنماط.

ولما كانت الأغنية المنتشرة في وسائل الإعلام المختلفة تحاكي مشاعر الشباب والفتيان من الجنسين، وتخاطب عواطفهم وأحاسيسهم التي ينبغي توجهها وفق فلسفة المجتمع وحضارته، ولما كانت شخصية كل واحد من الشباب والفتيان تنشد الاكتمال فإنها تجد في الأغنية الدارجة ما يساعدها في عملية التكوين، وفي اكتساب أنماط سلوكية تتوافق مع معايير اجتماعية وقيم ينتجها المجتمع نفسه.

إن الجسم الإنساني يحتاج إلى كمية من الهواء تناسب طبيعته، غير أن تلوث الهواء أو فساده لا يحولان دون قبول الجسم لكمية الهواء والأوكسجين اللازمة له، وبرغم كل عمليات التصفية التي يقوم بها الجسم فإن إمكانية تشرب الجسم للهواء الملوث أكبر من إمكانية طرده، وعندما يصبح التلوث أمراً واقعاً يأخذ الجسم بالتكيف معه، والاستجابة له، ومع أن الهواء يلبي قدراً كبيراً من حاجات الجسم، إلا أنه يحمل معه أيضاً قدراً كبيراً من عوامل الضعف والتراخي.

وبهذا الشكل تفعل الأغنية الدارجة فعلها بين الشباب من الجنسين، وفي المجتمع بصورة عامة، فالشاب مدفوع بحكم الضرورة للاستماع إلى الأغنيات والأهازيج التي يجد فيها حاجاته العاطفية والنفسية الاجتماعية، غير أنها تحمل في مضمونها جملة من القيم والاتجاهات المناقضة لعملية التأهيل الاجتماعي، فتصبح مواضيع الأغنية الحديثة مواضيعه، ومعاييرها معاييره، وأخلاقياتها أخلاقياته، وإذا كان تشربه لهذه القيم والمعايير لا يعدو شكلاً من أشكال التسلية وشغل أوقات الفراغ في البداية، إلا أنه يصبح الأساس الذي تبنى عليه شخصية الفتى فيما بعد، والأساس الأخلاقي الذي يحدد أشكال سلوكه وأنماط فعله.

وبتحليل قضايا الشباب ومشكلاتهم في أكثر من مئة أغنية متداولة في المحطات الفضائية العربية، وفي الإذاعات المحلية يلاحظ أن المشكلات العاطفية هي التي تستحوذ على ساحة الأغنية العربية بدرجة عالية جداً، أما القضايا الروحية، والوجدانية، والأخلاقية، والوطنية، والسياسية، ومشكلات العمل، ومشكلات الأسرة فلا تشغل إلا حيزاً صغيراً من اهتمامات الأغنية، وغالباً تفرغ الأغنية غير العاطفية من مضمونها الاجتماعي أو السياسي لتصبح بلا معنى بالنسبة إلى الشاب، وذلك لتبعثرها وقلة انتشارها من جهة، ولطابعها المحلي المرتبط بالبعد الإقليمي المحلي من جهة ثانية، وعندما تقدم وسائل الإعلام الأغنية الجادة لظرف من الظروف فإنها على الأغلب تقدمها في غير سياقها الاجتماعي والثقافي مما يفقدها مضمونها وتصبح بلا معنى. لقد باتت أغنيات مجردة من المضمون العاطفي والوجداني والسياسي، ويفسر ذلك جملة واسعة من المشكلات التي يعاني منها شباب اليوم، ويعاني منها المجتمع العربي برمته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق