صورة المرأة في الفضائيات العربية


     تأتي صورة المرأة في وسائل الإعلام العربية والمحطات الفضائية بأشكال عدة، منها ما يجسد صورتها كما هي في الواقع الاجتماعي الذي تعيشه المرأة بالفعل، ومنها ما يعكس تطلعات المعنيين بإنتاج هذه الصورة لما ينبغي أن يكون عليه واقع المرأة مستقبلاً، ومنها ما يجعل المرأة وسيلة من وسائل الترويج لتعزيز ثقافة محددة، أو التشجيع لممارسة أنماط سلوكية تخدم أغراضاً متنوعة.


وبغية التعرف على صورة المرأة في وسائل الإعلام لا بد من الإشارة إلى ثلاثة معايير أساسية في عملية التقييم، يرتبط الأول بمقدار ما يعكس الإعلام صورة المرأة المشاركة في النشاطات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، بما في ذلك أشكال اتخاذ القرار ضمن الأسرة . ويتصل الثاني بصورة المرأة كما تنسجم مع الثقافة العربية الإسلامية التي تستمد معاييرها من الدور الذي تقوم به المرأة في منظومة العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة وخارجها. أما المعيار الثالث فيجسد مقدار تمثل المرأة للثقافة المعاصرة، وأخذها بمعايير العلم والثقافة في معالجتها لقضاياها ومشكلاتها الاجتماعية. ويمكن التمييز بين أربعة مجالات تعكس صوراً مختلفة للمرأة، أولها البرامج الجادة وتشمل البرامج الإخبارية، والثقافية، والعلمية التي تبدو فيها المرأة مشاركة بإنتاج الثقافة والمعرفة على المستويات المختلفة، وتحقق تواصلها الفعّال مع كل من المشاهد المعني بالحدث السياسي، عرضاً ومناقشة وتعليقاً، والمشاهد المعني بشؤون الثقافة عبر الندوات التلفزيونية وما تعالجه من قضايا اجتماعية وثقافية تهم المواطنين بشرائحهم المختلفة. كما تظهر صورة المرأة المنتجة للثقافة العلمية في مجالاتها المختلفة الإنسانية منها، والتطبيقية. وتتصف صورة المرأة في هذا المجال بانها جادة في أدائها، مستوعبة للمهام المنوطة بها، مدركة لأبعاد عملها من النواحي الثقافية والحضارية. ويأتي ذلك منسجماً مع الدور المنوط بها في سياق العمل الإعلامي، وهو الدور الذي لا يحمل في ثيابه أي قدر من التمويه، إنما يجسد صورتها كما هي في الواقع. وتتصف هذه الصورة بأنها تنسجم مع بنية الثقافة العربية التي تجعل المرأة في موقع المسؤولية إزاء المهام المنوطة بها، بخلاف صورتها في بعض وسائل الإعلام العربية، التي أصبحت فيها وسيلة من وسائل ترويج الثقافة. وتوصف صورة المرأة في هذا المجال بأنها صورة صادقة، تعكس حال المرأة عند ظهورها، ففي المقابلات التلفزيونية مثلا تعرب المرأة عن أفكارها وآرائها كما تؤمن بها، وفي التحقيقات التلفزيونية تتحدث عن قضاياها ومشكلاتها بالشكل الذي يجسد قناعتها، وتبدو في تصرفاتها ولباسها كما هي في الواقع تماماً. ولهذا تعد صورتها صورة صادقة. غير أن ذلك لا يعني بالضرورة أن هذه الصورة تعكس صورة المرأة كما هي في الواقع الاجتماعي بصورة عامة، إنما هي صورة المرأة التي ترغب بالمشاركة على نحو من الأنحاء، فقد يمتنع عدد كبير من النساء حتى عن المشاركة في التحقيقات الصحفية والتلفزيونية لاعتبارات اجتماعية وثقافية متنوعة، وبالتالي فان صورة المرأة التي تعكسها البرامج الجادة هي صورة المرأة التي ترغب في توضيح مشاركتها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وفي شرح طبيعة هذه المشاركة لغيرها من الناس. وتظهر المرأة في المجال الثاني بصورة مختلفة، وهو المجال المرتبط بالإنتاج الفني الذي يقدمه الإعلام، ذلك أن هذا المجال يحمل صورا متناقضة، لأنه لا يجسد صورة المرأة كما هي في الواقع، أو صورة المرأة التي ترغب في توضيح مشاركتها، إنما يحمل صورة المرأة التي يتطلع إليها منتجو العمل الفني، من أدباء، وفنانين، ومثقفين.

ولما كان كل واحد من هؤلاء عضواً في المجتمع، وله تجربته الثقافية والأدبية والفكرية والفنية المتميزة، فمن الطبيعي أن تأتي صورة المرأة التي يقدمها في العمل الفني موافقة لصورة المرأة التي يتطلع إليها، أو موافقة لصورة المرأة النموذجية في ذاته ووعيه. ومن الطبيعي أن يترتب على ذلك تنوع واضح في صورة المرأة كما تظهر في مجموعة من الأعمال. إن العمل الفني ينطوي دائما على معالجته لمشكلة أو قضية واحدة، وقد يعالج قضية رئيسية ومجموعة قضايا ثانوية، غير أن المعالجة دائما تأتي منسجمة مع ما يتصوره منتجو العمل الفني لهذه القضية أو المشكلة، ولا تعكس بالضرورة حقيقة المشكلة كما هي في الواقع، وتبدو صورة المرأة في كل منها على نحو مختلف، لذلك تأتي مشوهة، وفيها قدر كبير من عملية الإسقاط الثقافي والفكري التي يمارسها منتج العمل الفني على وجوه المشكلة وجوانبها. ولهذا أيضا فان صورة المرأة بما تحمله من قضايا ومشكلات اجتماعية في العمل الفني الذي يقدمه الإعلام لا تعكس بالضرورة صورة المرأة الحقيقية ولا مشكلاتها، بقدر ما تعكس فهم المعنيين بإنتاج هذه الصورة وطبيعة إدراكهم لها. ودليل ذلك أن صورة المرأة تأتي متناقضة في كثير من الأحيان، فيوظف بعضهم بعض مشكلات المرأة التي تعاني منها في المجتمعات المتقدمة ليدلل من خلال ذلك على فساد المنظومات الاجتماعية المعاصرة، وخاصة الوافد منها في المجتمعات الغربية، وليدلل أيضا على سلامة المنظومة الثقافية التقليدية وضرورة اتباعها والخضوع لمعاييرها.

وعلى طرف آخر يلاحظ أيضا أن عدداً كبيراً من المثقفين يأخذون بتوظيف المشكلات التي تعاني منها المرأة في المجتمع التقليدي ليظهر فساد المنظومة الاجتماعية التقليدية، وضرورة التحرر من المعايير التي لم تعد صالحة للزمن الحاضر. وفي الحالتين معاً يلجأ كل منهم إلى انتقاء عناصر مختلفة من الواقع ويعيد تنظيمها في العمل الفني بالشكل الذي يجعل منها أداة لترويج فكره، وترويج ثقافته، وفي ذلك تكمن خطورة العمل الفني لما يحمله من عملية إسقاط أكثر مما فيه استنباط لمشكلات المرأة وما تمر به من أزمات حقيقية، وحتى يكون الإسقاط فعّالاً ومؤثرا لا بد أن يأتي في العمل الفني قدر كبير من التطرف في معالجة القضايا والمشكلات التي يعرضها، وفي الحالات أيضا تأتي صورة المرأة مشوهة، ولا تعكس الواقع الفعلي لما تعانيه من مشكلات. غير أن ذلك لا ينفي أن ما يقدم في الإعلام العربي بعامة، يعكس في بعض وجوهه قدراً كبيراً من المشكلات التي تعاني منها المرأة بصرف النظر عن التفسيرات التي تعطى لها.. فوسائل الإعلام تعكس فعلا مشكلات العمل والتعليم والزواج، ومشكلات المرأة ضمن الأسرة والحي الذي تقيم فيه وقضاياها الاجتماعية والثقافية المتنوعة. أما في المجال الثالث، والذي يظهر صورة المرأة كما هي في الإعلان التجاري، ففيه ما يكشف عن مخاطر كبيرة لا بد من التنبه إليها، والعمل على معالجتها. إذ إن الإعلان التجاري يحمل قضيتين أساسيتين بالنسبة إلى المرأة، تكمن في الأولى مشكلة استخدام المرأة كسلعة لإثارة الانتباه، ولفت الأنظار إليها بغية تشجيع الناس لاقتناء هذه السلعة المادية أو تلك. وفي الثانية تظهر المرأة كأداة لترويج ثقافة الانحلال الأخلاقي والاجتماعي. إن الإعلان التجاري رسالة يراد منها تغيير اتجاهات شريحة محددة من السكان نحو سلعة استهلاكية من السلع المتداولة في الأسواق، وغالباً ما يأتي تأثير الإعلان في الجمهور المتلقي بمقدار ما يعكس استخدام السلعة في سياق اجتماعي وثقافي. وحتى يصبح الإعلان مستهدفاً لا بد أن يكون على قدر كبير من الجاذبية ولفت الانتباه، وغالباً ما تستخدم صورة المرأة حتى تكون أداة للفت الأنظار نحو الإعلان، الأمر الذي يجعلها وسيلة من الوسائل التجارية التي يراد من استخدامها إيصال الإعلان إلى أوسع شريحة اجتماعية ممكنة.


والمشكلة الأخرى، انه حتى تصبح صورة المرأة ملفتة للنظر، ويصبح الإعلان التجاري واسع الانتشار لا بد أن تبدو فيه المرأة بصورة مختلفة عما هي عليه في الواقع، صورة نموذجية تستمد عناصرها مما يتوقعه أفراد الشريحة الاجتماعية المستهدفة، وليس من واقع المرأة الفعلي. وبالنظر إلى ضرورة أن تكون صورة الإعلان ملفتة للنظر، فان التطرف في عرض موضوع الإعلان يصبح جزءاً أساسياً منه، وطبيعي أن تبدو صورة المرأة في الإعلان صورة متطرفة أيضا.



وعندما تصبح صورة المرأة المتطرفة في مظهرها الاجتماعي واسعة التكرار عبر وسائل الإعلان المتعددة، تصبح صورة مقبولة في وعي شريحة واسعة من السكان، وخاصة تلك التي وجدت فيها ما تتوقعه من خروج عن المألوف من قيم وأخلاق وعادات تضبط السلوك وتحول دون انتشار الأنماط السلوكية الشاذة والمنحرفة. ويجد أفراد هذه الشريحة في صورة المرأة ما يعكس تطلعاتهم إلى حرية تخلو من أي التزام. وغالباً ما يسهم ذلك في ترويج ثقافة الانحلال الأخلاقي والاجتماعي، الذي يتعرض له المجتمع العربي بشكل عام، والتي تحمل في ثناياها أبعاداً ثقافية وسياسية واجتماعية متنوعة. وفي المجال الرابع تظهر صورة المرأة في الأغنية التي تعرضها الفضائيات العربية بصورة عامة، وهي الصورة التي ما زالت تجد في صورة المرأة كما هي في الثقافة الغربية نموذجها الذي تقتدي به، وتسير في هداه، دون الأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن يترتب على هذا النموذج من آثار ثقافية تؤثر في أنماط السلوك الاجتماعي بين الشباب والشابات. ويلاحظ أن صورة المرأة كما هي في الأغنية العربية المعاصرة تعيش في قطيعة كلية عن الثقافة العربية الإسلامية، وتشكل في واقعها الراهن المدخل الرئيسي لاختراق الثقافة الغربية للمجتمع العربي، إذ يؤدي التكرار المستمر لعرض صورة المرأة وهي منعزلة عن الثقافة الأم إلى جعل هذه الصورة مستساغة في وعي المشاهد، وفي وعي الشباب الذي تتجه إليهم الأغنية، وتقدم المرأة فيها بالشكل الذي يجردها من أي ثقافة، ويجرد معها جيل الشباب بأكمله من ثقافته العربية الأصيلة. حتى أن صورة المرأة في واقعها تجرد وعي الشباب من الذوق الفني والوجداني وتجعل معيار النجاح في الأغنية وقفاً على تحرر المرأة من أخلاقها وثقافتها الحضارية، حتى أصبحت صورة المرأة العارية واحدة من أهم معايير تقدم الأغنية العربية، وما في حقيقة الأمر إلا مظهر من أبرز مظاهر التخلف الثقافي والحضاري العربي في الوقت الراهن. والملاحظة التي لا بد من الإشارة إليها أن صورة المرأة في المجالات الأربعة مختلفة بدرجة كبيرة بين بعضها، ولها آثار متباينة في المجتمع المتلقي، وفي ضوء المعايير التي سبقت الإشارة إليها تعد من أفضل الصور موازنة مع تلك التي يقدمها الإعلام في الدول العربية الأخرى، والتي تبرز فيها مظاهر التطرف بشكل واضح. وحتى تصبح هذه الصورة ذات فعالية كبيرة، وأثر نمائي فعّال في الحياة الاجتماعية لا بد من توضيح المسائل الرئيسية التالية: لا بد من التحرر من صورة المرأة النموذجية التي تعكسها وسائل الإعلام الغربية، والمحطات الفضائية التي تأخذ بمعالجة قضايا المرأة بصرف النظر عن السياق الاجتماعي والثقافي الذي يحتضنها، فالمجتمع العربي ليس مجتمعاً خالياً من الثقافة أو الحضارة حتى يسوّغ بعضهم لنفسه العمل على إشادة ثقافة مستوردة لها من الآثار السلبية يما يفوق كثيراً آثارها الإيجابية. كما أن النظر إلى صورة المرأة، كما هي في الثقافة الغربية، على أنها النموذج الذي تقاس من خلاله صلاحية الصورة المناسبة للمرأة أو عدم هذه الصلاحية، يحمل في مضمونه قدراً كبيراً من الاختراق الثقافي الغربي، والذي يهدد بنية المجتمع برمته. لا بد من التحرر أيضا من صورة المرأة التي تتطلع إليها النموذج التقليدي، والذي يرى في المرأة كائناً يجب أن يكون منفصلاً عن العالم، وعن المحيط الاجتماعي. دون أن يأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الإنسانية والاجتماعية في شخصية المرأة، والذي يحجب عن المجتمع مشاركة أعضائه مشاركة حقيقية. فالمرأة لا يمكن أن تكون مصدراً للعطاء والتربية الخلاقة إلا من خلال تكامل وعيها، ونمو معرفتها، وحرية قرارها. ومن خلال نضوج شخصيتها التي تبقى آثارها في الأبناء وترافقهم حياتهم كاملة. كما أن الانفتاح الثقافي بات ضرورة من ضرورات التفاعل مع العصر. إن التطرف في معالجة القضايا الاجتماعية بصورة عامة، والتطرف في صورة أشكال المرأة التي تعكسها وسائل الإعلام العربية، والتي يعتقد بعضهم أنها تجسد الصورة النموذجية للمرأة كما ينبغي أن تكون فيؤدي إلى عكس ما هو مطلوب منها، فتمثل الصورة النموذجية للمرأة في الحياة الاجتماعية، يؤدي إلى انعزال صاحبها، وانغلاقه على نفسه تارة، أو إلى إقحام نموذج ثقافي في غير سياقه الحضاري تارة أخرى.


وتأتي صورة المرأة في معظم الأحيان وكأنها هدف بحد ذاته، وغاية مستقلة عن الشروط الاقتصادية والاجتماعية التي تحتضنها، وفي ذلك تكمن الخطورة، ومثال ذلك أن عمل المرأة أو تعليمها لا يعد هدفاً بحد ذاته، وعندما يصبح أي منهما كذلك فان النتائج المترتبة عليه تحمل جملة من المخاطر تفوق ما قد ينجم عن غيابه. وبالنظر إلى أن وسائل الإعلام تغفل الإطار العام الذي يجعل من التعليم أو العمل ذا معنى اجتماعي ووظيفة اجتماعية فان النماذج الثقافية التي تعززها صورة المرأة في السلوك الاجتماعي تأتي منعزلة عن بعضها بعضا، وهي تعد هدفاً بحد ذاته.

حتى أن الحكم على أنماط السلوك التي تعززها هذه الصورة لا يأتي من طبيعة السياق الثقافي للمجتمع العربي، ولا من طبيعة التحديات الحضارية التي تجابهها في الوقت الراهن، إنما يأتي من النظر إلى هذه الأنماط على أنها غاية بحد ذاتها. إن العمل على جعل صورة المرأة فاعلة ومؤثرة في الحياة الاجتماعية بالشكل الذي يخدم قضايا الأمة والمجتمع يتطلب إعادة النظر في مجموعة من المقولات والمبادئ الأخلاقية والاجتماعية التي تشكل القاعدة التي تشاد عليه صورة المرأة، على أن تعالج هذه المبادئ والمقولات في ضوء التحديات الثقافية والحضارية التي تهدد مجتمعنا العربي. وفي ضوء المخاطر التي يعيشها المجتمع العربي. ففي كل صورة من صور المرأة في الإعلام بعد سياسي لا يدرك إلا في ضوء المخاطر التي تهدد المجتمع، وفي ضوء التحديات الثقافية التي يراد منها اختراق المجتمع العربي الراهن برمته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق