قضايا الشباب ومشكلاتهم في الأغنية العربية

      تعد الأغنية رافداً أساسياً من الروافد التي تنمي الشخصية الفردية، وبخاصة بين قطاع الفتيان والشباب الذين يتطلعون إلى بناء ذواتهم، وأعمالهم، ومستقبلهم، وتزداد هذه الأهمية بصورة واضحة بين الفتيات والشابات بالموازنة مع ما هي عليه بين الفتيان والشباب، ذلك أن الفتيات بصورة عامة أسرع في الاستجابة للجديد في أنماط السلوك، وأشكال اللباس. وبرغم أن هذه التوقعات ليست مبنية في مجتمعنا العربي على إحصاءات علمية دقيقة، غير أن الانطباع العام السائد في الوسط الاجتماعي يفيد بذلك، فالفتاة بصورة خاصة، والأنثى بشكل عام أكثر تأثراً بالوسط الاجتماعي، وأكثر ميلاً لتقليد غيرها من الفتيات أو الإناث.

     
       وبالنظر إلى أن الأغنية تخاطب الأحاسيس والمشاعر عند الفرد، فمن الطبيعي أن يكون تأثيراها كبيراً في مجموعات الإناث بالموازنة مع تأثيرها في مجموعات الذكور التي تبدي قدراً كبيراً من المقاومة لما هو مستحدث من نماذج وأشكال وفنون، ومع ذلك فإن هذا التباين في استجابة الجنسين لما هو جديد لا يعني أن الذكور لا يتأثرون بالمحيط، أو بالعادات والتقاليد التي تنتجها الحضارة الحديثة، إنما يراد القول بأن استجابة الإناث هي بصورة عامة أكبر من استجابة الذكور.


         وكما يختلف الذكور عن الإناث في أشكال استجابتهم لما هو جديد من الأغنية والأعمال الفنية، كذلك يختلف كبار السن عن الصغار، والمتعلمين عن غير المتعلمين، والأثرياء عن غير الأثرياء، الأمر الذي يدل على أن أثر الأغنية في تكوين الشخصية يختلف بين الأفراد بحسب خصائصهم وطباعهم، ودرجات نضوجهم النفسي والاجتماعي والأخلاقي والوجداني.


          وتعود أهمية الأغنية بالنسبة إلى تكوين الشخصية بين الفتيات والفتيان إلى كونها تخاطب الجانب العاطفي في حياتهم، وتحاكي حاجاتهم النفسية التي يستبعدها نظام الأسرة من برامج تأهيلهم لأبنائهم، في الوقت الذي تعد فيه شخصية الفتى أو الفتاة غير مكتملة البناء من النواحي العاطفية والنفسية والاجتماعية والوجدانية مما يجعلها شديدة الميل لمحاكاة ما هو جديد ومنتشر في الوسط الاجتماعي، لما يؤديه من وظيفة حيوية في عملية التكوين التي تحتاج إليها شخصية الفتى.
والمشكلة أن النفس البشرية تميل إلى التكوُّن بحسب ما يحاط بها من شروط عاطفية ونفسية واجتماعية، فهي لا تعرف الكمال المطلق، إنما تعرف الكمال الذي يتاح لها، ولهذا فهي لا تحكم على الأشياء وفق معايير مسبقة، إنما من خلال المعايير التي تتشكل مع عملية التكوين نفسها وترافقها، فتأتي شخصية الفرد مبنية على أنماط سلوكية مستخلصة من البيئة المحيطة، وعلى ومعايير أخلاقية واجتماعية تسوِّغ هذه الأنماط.

ولما كانت الأغنية المنتشرة في وسائل الإعلام المختلفة تحاكي مشاعر الشباب والفتيان من الجنسين، وتخاطب عواطفهم وأحاسيسهم التي يتجاهلها المجتمع، ولما كانت شخصية كل واحد من الشباب والفتيان تنشد الاكتمال فإنها تجد في الأغنية الدارجة ما يساعدها في عملية التكوين، وفي اكتساب أنماط سلوكية تتوافق مع معايير اجتماعية وقيم ينتجها المجتمع نفسه.

         إن الجسم الإنساني يحتاج إلى كمية من الهواء تناسب طبيعته، غير أن تلوث الهواء أو فساده لا يحولان دون قبول الجسم لكمية الهواء والأوكسجين اللازمة له، وبرغم كل عمليات التصفية التي يقوم بها الجسم فإن إمكانية تشرب الجسم للهواء الملوث أكبر من إمكانية طرده، وعندما يصبح التلوث أمراً واقعاً يأخذ الجسم بالتكيف معه، والاستجابة له، ومع أن الهواء يلبي قدراً كبيراً من حاجات الجسم، إلا أنه يحمل معه أيضاً قدراً كبيراً من عوامل الضعف والتراخي.
        وبهذا الشكل تفعل الأغنية الدارجة فعلها بين الشباب من الجنسين، وفي المجتمع بصورة عامة، فالشاب مدفوع بحكم الضرورة للاستماع إلى الأغنيات والأهازيج التي يجد فيها حاجاته العاطفية والنفسية الاجتماعية، وبرغم ما تؤديه الأغنية من دور فعّال في بناء الشخصية ونضوجها، إلا أنها تحمل معها قيمها ومعاييرها لتصبح معايير الفتى نفسه، وقيمه وأخلاقه، وإذا كان تشربه لهذه القيم والمعايير لا يعدو شكلاً من أشكال التسلية وشغل أوقات الفراغ في البداية، إلا أنه يصبح الأساس الذي تبنى عليه شخصية الفتى فيما بعد، والأساس الأخلاقي الذي يحدد أشكال سلوكه وأنماط فعله.


        وبتحليل قضايا الشباب ومشكلاتهم في أكثر من مائة أغنية متداولة في المحطات الفضائية العربية، وفي الإذاعات المحلية يلاحظ أن المشكلات العاطفية هي التي تستحوذ على ساحة الأغنية العربية بدرجة عالية جداً، أما القضايا الروحية، والوجدانية، والأخلاقية، والوطنية، والسياسية، ومشكلات العمل، ومشكلات الأسرة فلا تشغل إلا حيزاً صغيراً من اهتمامات الأغنية، وغالباً تفرغ الأغنية غير العاطفية من مضمونها الاجتماعي أو السياسي لتصبح بلا معنى بالنسبة إلى الشاب، وذلك لتبعثرها وقلة انتشارها من جهة، ولطابعها المحلي المرتبط بالبعد الإقليمي المحلي من جهة ثانية، فالأغنية السياسية في مصر أصبحت مصرية، وفي الأردن أردنية، وفي الجزائر جزائرية، وفي الخليج خليجية، وهكذا حتى غاب البعد الوطني والاجتماعي عن الأغنية السياسية، وباتت أغنيات مجردة من المضمون العاطفي والوجداني والسياسي.


          كما يلاحظ بشكل واضح أن الأغنية العربية المتداولة لا تعرف شيئاً عن مشكلات الشباب في مجالات العمل والدراسة والإبداع، وإذا انتشرت أغنيات محددة تحاكي مشكلات الشباب وقضاياهم غير العاطفية،  فإنها تأتي في سياق اهتمامها بالجوانب العاطفية لا في سياق المشكلات نفسها، وإذا ورد في الأغنية ذكر لاسم الله عز وجل فيأتي ذلك في سياق القسم الذي يؤديه العاشق لعشيقته أو في سياق الدعاء حتى تحل مشكلة عشقه. أما أن يرد اسم الله عز وجل في أغنية ما ضمن سياق ثقافي ديني، فيعد ذلك نادراً للغاية، وإذا حدث فلا شك أن هناك مناسبة تقتضي ذلك، ثم تغيب الأغنية حتى تأتي مناسبة جديدة، وغالباً ما تعرض هذه الأغنيات في ظروف غير مناسبة، أو في سياق يفقدها مضمونها الديني، ومضمونها التقويمي، ويجعلها بلا معنى يتشربه المستمع، ويقال الأمر ذاته في الأغنية السياسية، وفي الأغنية الوطنية.


         كما يلاحظ أن مشكلات الشباب في علاقاتهم مع أسرهم، وذويهم، لم تأت لتظهر الأغنية العربية أهمية هذه المشكلة وضرورتها، وما يترتب عليها من آثار إيجابية أو سلبية، إنما تأتي هذه المشكلات في سياق ارتباطها مع المشكلات العاطفية التي يعاني منها الشاب أو الفتاة، وفي سياق إظهار المعاناة التي يعانيها العاشق من ذويه لارتباطه بعشقه أو ارتباطه بحبيبته. وينطبق الأمر ذاته على مشكلات العمل والسكن والبطاله وضعف الدخل وغيرها من المشكلات.


         إن منتجي الأغنية العربية، حتى الآن، تشغلهم الرغبة في الانتشار والشهرة، ولهذا يجدون أن الخطاب العاطفي هو أسرع أشكال الخطاب التي تصل الشباب، ويمكن اختراقهم من خلالها، وهم الشريحة الأكبر في المجتمع، ويستطيعون من خلال ذلك الوصول إلى أوسع شريحة سكانية، وتحقيق أكبر قدر من الأرباح، وهم يستبعدون من دائرة تفكيرهم ما يترتب على هذا الأسلوب من أضرار تلحق بأبنائهم وأبناء بلدهم ومجتمعهم، فالأغنية ليست مجرد عمل تجاري يراد منه تحقيق الربح السريع، أو الشهرة الفارغة، إنه مسؤولية تاريخية وثقافية وحضارية، وإذا كان مطلوب من التاجر أن يفكر مائة مرة قبل أن يستورد بضاعة من دولة أجنبية حتى لا يصاب بخسارة فادحة، وإذا كان مطلوب من المنتج الصناعي أن يفكر مائة مرة بنوعية المنتج حتى لا يعود عليه ذلك بالخسارة، فإن الأمر يتطلب من منتجي الأغنيات العربية أن يفكروا بأغنياتهم ألف مرة قبل إنتاجها لأن ما يترتب عليها من نتائج ثقافية وحضارية أكبر من إمكانية حصره وضبطه، ويفوق ما يتوقعه من مردود مادي سيكون هزيلاً مهما علا شأنه بالموازنة مع أضراره على مستوى الأفراد والمجتمع على حد سواء.


         وفي الوقت الذي تبدو فيه قضايا الأغنية مسألة اجتماعية وترفيهية بالدرجة الأولى، ويأخذ المعنيون في المؤسسات الإعلامية بالتعامل معها على هذا الأساس، غير أن بعدها السياسي أكثر خطورة، ذلك أن تصعيد الميول العاطفية، والشهوانية الجسدية، ليست شكلاً من أشكال الفنون الراقية كما يحلو للبعض تصويرها، إنما تنطوي على أبعاد سياسية أكثر تعقيداً، فإذا كانت قيمة الإنسان بمشاعره وأحاسيسه وعواطفه وما يحمله من قيم أخلاقية وإنسانية ووطنية فإن الأغنية الدارجة تفقده قدراً كبيراً من هذه المشاعر، وتدفع به إلى أن يتمثل في وعيه قضاياه الشخصية والعاطفية والجسدية، بعيداً عن قضايا الوطن والأمة، وبعيداً عن القيم الضابطة لسلوكه في سياق علاقاته مع الآخرين، وفي سياق علاقاته بقضايا وطنه وأمته.


          ويحلو لبعضهم القول بأن هذه المشاعر والأحاسيس التي نراها واسعة الانتشار بين الشباب، والتي أصبحت القضايا العاطفية، والعلاقة مع الجنس الآخر، والتمتع بملذات الجسد هي المحددة لأنماط السلوك بالنسبة إلى عدد كبير من الشباب هي مشاعر وقتية، ولا تؤثر في مواقفهم وسلوكياتهم الاجتماعية والوطنية على المدى البعيد، وعندما تتطلب الظروف الاجتماعية والسياسية مواقف مختلفة فمن الطبيعي أن يكون الشباب في مقدمة من يستجيبون لهذه المواقف، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة عدم إشغالهم بقضايا تبعدهم عن التلذذ بخصوصيات المرحلة التي يعيشون فيها، فلهم الحق في أي يعيشوا مرحلة الشباب بما تنطوي عليه من شروطها، فذاك أدعى إلى تحقيق إنسانيتهم، التي تحررهم من الضغوط الاجتماعية التقليدية ومظاهر الكبت النفسي التي يمكن أن تسيطر على أنماط سلوكهم، وتحرفهم عن طبيعتهم، فإعطاء الشباب حق الحياة بالشروط التي تقتضيها مرحلتهم العمرية إن هو إلا شكل من أشكال التربية الحديثة التي تنظر إلى الفرد في ضوء مرحلته العمرية التي يعيشها، وليس في ضوء صورته المستقبلية التي يتوخاها له الكبار كما كان الأمر في الماضي.

غير أن هذه الحجج لا ترقى إلى مستوى البرهان العلمي، وفيها قدر كبير من المخاطر، ولكن ليس على مستوى الأبناء، إنما على مستوى المجتمع، ذلك أن تنمية المشاعر والأحاسيس الفردية، وتصعيد الميول العاطفية المقرونة بالشهوات الجنسية لا يساعد في بناء الوطن، ولا يسهم في بناء المجتمع على النحو الذي تتضافر فيه الجهود والأفعال على نحو تكاملي، والفرد الذي نمت في شخصيته ميوله العاطفية الجسدية لن يكون قادراً على الدفاع عن أرضه ووطنه عندما تقتضي الشروط ذلك.


          وفي هذا التصور تكمن أهمية المؤسسات الإعلامية، لما لها من دور أساسي في إيصال الأغنية إلى الشباب، وفي البحث عن مضمون الأغنية العاطفية الوطنية المناسبة، والمؤسسات الإعلامية التي لا تدرك مسؤولياتها الوطنية في هذا السياق ولا تبني مواقفها على أن الوطن بحالة حرب مستمرة مع العدوان بأشكاله المختلفة، فهي تتخلى من حيث لا تدري عن وظيفتها الوطنية والاجتماعية والسياسية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق