وراثة المهن بين الأجيال



تعد وراثة المهن واحدة من الظواهر التي تعرفها المدن الكبرى بصورة عامة، وهي واحدة من الظواهر التي تصف مدينة دمشق منذ فترة طويلة نتيجة انتشار ما يعرف بالتقسيم الاجتماعي للعمل بحسب الشرائح والفئات الاجتماعية المقيمة في هذه المدينة أو تلك، وبسبب مظاهر الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في المدينة لفترة طويلة، فالمهن المختلفة والحرف الصناعية والأعمال التجارية مستقرة في المدن لما تتطلبه من شروط فنية واقتصادية واجتماعية لا تتوفر في القرى والأرياف، كما شروط العمل الزراعي وفلاحة الأراضي تتطلب شروطاً لا تظهر في المدن، مما يجعل أبناء المدن مجبرين على ممارسة الأعمال التي تناسب شروط بيئتهم، في الوقت الذي يندفع أبناء القرى إلى العمل في النشاطات التي تناسب بيئاتهم أيضاً، وغالباً ما كان العمل في أي نشاط يحمل في طياته قيماً اجتماعية تحدد الموقع الاجتماعي للفرد ومكانته بين أقرانه، ودرجة النفوذ الاجتماعي التي يتمتع به.

غير أن عمليات الانفتاح على الآخر وعمليات التواصل الاجتماعي والثقافي جعلت الآفاق واسعة أمام أبناء المدن بدرجة كبيرة، وتزيد كثيراً عما هي عليه بين أبناء الريف، الأمر الذي ساعد في انتشار مهن جديدة، وأعمال لم تكن معروفة في السابق، ولما كانت المهن الجديدة تحمل أيضاً قيماً اجتماعية تحدد الموقع الاجتماعي للفرد، ودرجة النفوذ المعنوي الذي يتمتع به، فمن الطبيعي أن يأخذ الأبناء بمحاولات تغيير المهن التي ورثوها عن آبائهم بحثاً عن أمرين أساسيين هما المكانة الاجتماعية الأفضل، والدخل المادي الأعلى.


وغالبا ما تأتي الرغبة في تغيير مهنة الأب لأسباب مختلفة منها اكتساب الأبناء مستويات تعليمية أفضل كالحصول على شهادات جامعية، وخاصة في المجالات التي يمكن أن توفر للأبناء فرص عمل جيدة، وتدر دخلاً أفضل من الأعمال التقليدية، أو توفر إمكانية العمل الوظيفي بأجور جيدة نسبياً، وقد تأتي هذه الرغبة أحياناً نتيجة الحصول على ثروة مالية نتيجة بيع أجزاء من الأراضي أو العقارات التي كانت بحوزة الأسرة في المرحلة السابقة، وخاصة بعد أن امتد التنظيم العمراني إلى مساحات كبيرة من المناطق التقليدية وكان ذلك سبباً لتكوين ثروة مالية لا يمكن الحصول عليه بالطرق التقليدية، فيندفع الأبناء في هذه الحالة إلى التفكير بتغيير مهن الآباء وانفتاح على مشاريع اقتصادية وتجارية جديدة ربما كانت حلماً كبيراً لهم في مراحل سابقة من حياتهم.

وقد يكون الحصول على مستويات تعليمية أفضل أو ثروات مالية أعلى نتيجة السفر لخارج الدولة، فتسهم الظروف الجديدة التي يعيشها الأبناء في الغربة بتكوين منظومة جديدة من الأفكار والآراء والاتجاهات التي تجعلهم ينظرون إلى المهن التي كان يمارسها آباؤهم على أنها لم تعد تناسب مظاهر التطور الاجتماعي الذي حققه المجتمع حتى الآن.

وعلى الرغم من أن رغبة الأبناء في تغيير المهن التي ورثوها عن آبائهم تعد ظاهر طبيعية، لابد من الإشارة إلى أن هذا التغيير يحمل جوانب إيجابية وسلبية في كثير من الأحيان، فإذا كان الاندفاع لتغيير المهنة بحكم قوة التأثر بالمظاهر الاجتماعية دون توفر مقوماته الاقتصادية والاجتماعية فغالباً ما يرتد الأمر في سلبياته على الأبناء أنفسهم، فلا تبدو معالم النجاح في المهن الجديدة واضحة لضعف مقوماتها بالنسبة إلى الأبناء، في الوقت الذي يكون فيه الأبناء قد تخلوا عن مقومات المهن التقليدية، كالتخلي على المحل التجاري، أو بيع الأدوات والعدد وغير ذلك.. وقد تأتي الرغبة في التغيير مقرونة بالمقومات اللازمة له، فيحقق الأبناء قفزات اجتماعية واقتصادية في حياتهم، خاصة إذا كانت المهن التقليدية لا تتصف بقدرات إنمائية واسعة.
والملاحظة الأخيرة التي لا بد من الإشارة إليها أن تغيير المهن قد يحمل في طياته جوانب سلبية على المستوى الاقتصادي بصورة عامة، فالكثير من المهن والحرف التقليدية تتصف بأبعاد ثقافية وتراثية في المجتمع، وخاصة المهن اليدوية والحرف المهنية وهي في تناقص مستمر، وقد اندثرت مهن كثيرة بحكم ضعف وظيفتها الاقتصادية في المجتمع، وبحكم عمليات التغير الواسعة التي يشهدها المجتمع خلال الفترات السابقة، الأمر الذي يوجب على المعنيين في مؤسسات الدولة التنبه إلى المخاطر الثقافية التي تنجم عن تخلي الكثير من الأبناء العشوائي عن مهن آبائهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق