التحولات المجتمعية والشعور بالمسؤولية الاجتماعية


 يشكل الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية الأساس الاجتماعي المتين لعمليات التنمية والتطور الاجتماعيين في المجتمعات الإنسانية لارتباطه بما يقدمه الأفراد لمجتمعهم من مبادرات شخصية وأعمال لا يتقاضون عليها أي تعويض مادي بالضرورة، وهو أمر لا يتحقق في الواقع الاجتماعي دون ارتفاع مستوى الشعور بالمسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتق الأفراد، بوصفهم أفراداً تارة، وبوصفهم جماعات في وقت واحد، وتبرهن تجارب المجتمعات المحلية على ما أن يتصف منها بارتفاع مستويات الشعور بالمسؤولية الاجتماعية غالباً ما تنتشر فيها أيضاً مظاهر التضافر والتضامن الاجتماعيين، ويحقق المجتمع المحلي من الخيرات أكبر من حاجاته الأساسية، وفي ذلك يكمن سر التنمية والتطور الاجتماعيين، بينما لوحظ أن المجتمعات المحلية التي يتصف أفراد بضعف الشعور بالمسؤولية الاجتماعية غالباً ما تنشر فيها مظاهر الميل نحو تحقيق المكاسب المادية بدرجة تزيد على مساهماتهم في عملية الإنتاج، وتنتشر مظاهر التفكك الاجتماعي، مع ما يترتب عليها من مشكلات الانحراف والجريمة بأنواعها المتعددة، بالإضافة إلى ما يترتب على ذلك أيضاً من زيادة مضطردة في استهلاكهم للسلع والخدمات، ويجعل قوام حاضرهم مبنيا على الموارد المتوقعة في مستقبلهم، ومع انتشار مظاهر التفكك الاجتماعي تصبح القضايا الاجتماعية أكثر خطورة على حياة الأفراد والجماعات على حد سواء.


غير أن مظاهر المسؤولية الاجتماعية وآلياتها اختلف في تاريخ البشر باختلاف التنظيمات الاجتماعية التي يعيشها الناس، ففي ظل المجتمع العشائري التقليدي ترتبط المسؤولية الاجتماعية عادة بالعرف والعادات والتقاليد، ويأتي شعور الفرد بالمسؤولية الاجتماعية من شعوره بالواجبات التي تفرضها عليه الجماعة تبعاً للموقع الاجتماعي الذي يشغله في القبيلة أو العشيرة، فالشعور بالمسؤولية المترتبة على موقع شيخ القبيلة أو زعيمها مثلاً يختلف عن الشعور بالمسؤولية الاجتماعية المترتبة على موقع أقل في بنية التنظيم العشائري، وبالنظر إلى أن كل فرد يستحوذ على موقع اجتماعي محدد، فإن شعوره بالمسؤولية الاجتماعية يأتي مختلفاً نسبيا عن الشعور الذي يتصف به فرد آخر، مع تماثل المسؤوليات الاجتماعية المترتبة على الشخاص في الموقع الواحد، وفي هذا السياق فإن شعور الزوج بالمسؤولية الاجتماعية نحو أسرته وأبنائه يختلف عن الشعور بالمسؤولية لدى الزوجة، غير أن كل منهما يكمل الآخر ولا يناقضه.

أما في المجتمعات الدينية، فيأتي مصدر المسؤولية الاجتماعية مختلفاً بدرجة كبيرة، فيصبح مفهوم الحلال الحرام بمثابة الأساس الذي يبنى عليها الشعور بالمسؤولية، ففي حين كان الفرد يشعر بمماسته لعمل معيب إن ظهرت لديه ملامح التقصير في المسؤولية الاجتماعية نحو غيره من أبناء عشيرته، بينما أصبح يشعر بأن تصوراته للحلال والحرام هي التي تحدد مسؤولياته الاجتماعية، فلم يعد التقصير في تقديم المساعدات الاجتماعية والمادية للمحتاجين دليل على ممارسة سلوك معيب كما كان عليه الأمر في المجتمع العشائري أو القبلي، إنما بات شيئا حراما في المجتمع الديني، وبالتالي فإن المسؤولية الاجتماعية لم تعد مستمدة من المكانة التي يتصف بها الفرد، ولم يعد التخلي عنها سلوكا معيبا، إنما أصبحت مستمدة من رضا الله عز وجل، وبات الابتعاد عنها حراما يحاسب عليه المرء يوم الحساب الأكبر.
وفي المجتمعات الحديثة، وخاصة الأوربية منها، بات مفهوم المسؤولية الاجتماعية مرتبطاً بمفهوم القانون الوضعي الذي تقره الدولة ويعمل بمقتضاه كل أفراد المجتمع، ويصبح القانون معياراً أساسياً للتميز بين انماط السلوك، وبالتالي فإن المسؤولية الاجتماعية التي يفرضها الموقع الاجتماعي للزوج إنما تأتي مما تفرضه القوانين الوضعية عليه من واجبات، وكذا الأمر بالنسبة إلى الزوجة، والأقارب، وأبناء العم وأبناء الخال والخالة وغيرهم، فقد يبقى أحد الأخوة تحت العلاج الطبي لفترة من الزمن داخل المشفى، ولا يشعر أي من الأخوة بالمسؤولية الاجتماعية التي توجب عليه زيارة أخيه المريض ومساعدته والوقوف إلى جانبه، حتى أن في مقدور الزوجة ترك الأسرة لمجرد أنها لم تعد قادرة على التوافق مع زوجها، لأن القوانين لا تلزمها بذلك.
والمشكلة التي تجابه مجتمعنا العربي إنما هي في كونه يعيش مرحلة انتقال كبيره في نظمه وعاداته وقيمه، فمع عمليات الانفتاح الكبيرة على المجتمعات الأخرى، ومع النمو المطرد لوسائل الاتصال، بات الناس يكتسبون كل يوم أنماط جديدة من القيم والسلوك والعادات حتى أصبحت دعائم المجتمع التقليدي مهددة بالانهيار، فلم يعد الارتباط العشائري أو القبلي على ما هو عليه، بل بات في انحلال واضح، ولم يعد الدين عاملاً أساسياً من عوامل ضبط السلوك الاجتماعي لاعتبارات كثيرة، في الوقت الذي لم يكتسب المجتمع حتى الآن تنظيما جديداً يعيد ترتيب تصورات أبنائه لمفهوم المسؤولية الاجتماعية، مما جعل هذا المفهوم مضطرباً في وعي الناس، فهناك أنماط سلوكية كثيرة مستمدة من الحياة الاجتماعية القبلية والعشائرية، ولكنها لا تتوافق بالضرورة مع أحكام الشريعة الإسلامية، بدلالة التغير الملحوظ في الأحكام الشرعية المتعلقة بأنماط سلوكية عديدة، فالامتناع عن تعليم الفتاة مثلاً، كان في الأصل سلوكا معيباً، في إطار المجتمع العشائري، ثم أصبح في وعي بعضهم محرماً، وبقي الأمر كذلك لفترة طويلة من الزمن، ثم اختلف الأمر باختلاف الشروط الاجتماعية والاقتصادية للحياة، حتى أصبح تعليم الفتاة اليوم هو واحد من المسؤوليات الاجتماعية التي ينبغي على ولي الأمر القيام بها، وما يقال في تعليم الفتاة يقال أيضاً في امتلاك المذياع (جهاز الراديو)، والتلفاز، وفيما بعد اللواقط الفضائية، واستخدام الكثير من التقانات الحديثة وغيرها، وكل ذلك يدل على أن المعايير الضابطة للسلوك، والمحددة لأشكال المسؤولية الاجتماعية، والتي كانت سائدة لفترة طويلة من الزمن أخذت بالانحلال والتفكك حتى فقد قوتها الاجتماعية التي كانت عليها في الماضي.

وفي سياق هذا التغير الواسع في الحياة الاجتماعية بات مفهوم المسؤولية الاجتماعية مختلفاً تماماً، واصبحت الركائز التي يعتمد عليها مختلفة أيضاً بدرجة عالية، لكن المشكلة أنه مع انحلال ضوابط المسؤولية الاجتماعية كما كانت عليه في الماضي، لم تتشكل بعد ضوابط جديدة للمفهوم في سياق التنظيم الاجتماعي الجديد، خاصة وأن هذا التنظيم لم يتشكل بحد ذاته، وبدت معالم التسويغ الاجتماعي لانحلال معايير المسؤولية الاجتماعية بالمعنى التقليدي، ففي حين كان دخول أحد أفراد الأسرة إلى المشفى يوجب على أخوته ملازمته إلى حين شفائه، ويوجب على أبناء عمه مثلاَ أن يكون على معرفة يومية بتطوراته حالته، أما اليوم فإن دخول أحد أفراد الأسرة إلى المشفى لا يوجب ملازمته من قبل حتى أخوته، ويسوغ الوعي الاجتماعي عدم الالتزام بهذا الواجب بحكم اختلاف الشروط الاقتصادية والاجتماعية للحياة.
وفي ضوء هذا التصور فإن مشكلة ضعف الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، إنما يعود بالدرجة الأولى إلى ضعف مرجعية الانتماء، ذلك أن الشعور بالمسؤولية الاجتماعية يزداد بقوة مع ارتفاع الشعور بالانتماء، فحيث يكون الانتماء للعشيرة قوياً، تأتي المسؤولية الاجتماعية لتطابق هذا الانتماء وتبني نفسها على أساسه، فيصبح واجب الفرد نحو أسرته واقاربه وحتى مسؤولياته الاجتماعية نحو الآخرين إنما تأتي من منظور القبيلة أو العشيرة التي ينتمي إليها، فكل ما من شأنه أن يقوي القبيلة أو العشيرة، فإنه يعد شكلاً من أشكال المسؤولية الاجتماعية، وحيث يكون الانتماء للعقيدة الدينية تأتي المسؤولية الاجتماعية لتطابق هذا الانتماء ايضاً حتى تصبح مسؤوليات الفرد نحو أقرب المقربين إليه، ونحو أقاربه، ونحو عشيرته، ونحو الآخرين ايضاً، إنما هي محكومة بمعايير الحلال والحرام، لأن الانتماء للعقيدة يصبح الأساس الذي يبنى عليه السلوك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق