مستوى المعيشة وأنماط الحياة الاجتماعية


لاشك في أن مستوى الدخل الذي يعود على الأسرة يحقق لها قدراً من حاجاتها العضوية والنفسية والاجتماعية، ويسهم في توسيع الآفاق أمام أبنائها، فيوفر لهم ظروف أفضل لتعليمهم في المراحل المختلفة، كما أنه يساعدهم في تأمين مستلزمات العملية التعليمية من كتب ومراجع وقرطاسية ومعلمين خصوصيين وغير ذلك من الشروط التي تساعدهم في تحسين مستوى تحصيلهم الدراسي، ومستوى كفاءتهم، الأمر الذي قد يساعد في تفجير طاقات الأبناء، ويعزز من قدراتهم على الإبداع واكتشاف الجديد، بالإضافة إلى أن ذلك يساعد الأبناء على اختيار مجالات التعليم المفضلة بالنسبة إليهم.


بينما يؤدي انخفاض مستوى الدخل، وبالتالي انخفاض مستوى المعيشة إلى نتائج مختلفة، فقد يحرم الأبناء من حقوق طبيعية لهم، فيمنعهم انخفاض مستوى المعيشة من متابعة تعليمهم، ويدفعهم إلى اختيارات لم تكن من اختياراتهم المفضلة، أو يفقدهم القدرة على توفير مستلزمات تعليمهم، وبخاصة مستلزمات تعليمهم في المراحل الجامعية.

أما بالنسبة إلى ربة الأسرة فلا شك في تأثير ارتفاع مستوى المعيشة، وتحسن قيمة الدخل، إذ يوفر لها شروطاً أفضل تساعدها في أداء وظائفها المنزلية، ويمكنها من استخدام تقانات حديثة باتت معروفة بين ربات الأسر في مختلف المناطق، وقد يؤدي ارتفاع مستوى المعيشة إلى جعل ربة الأسرة تمارس واجباتها عن بعد ودون أن تبذل جهوداً كبيرة أو مضنية كما كان الحال في الماضي.

وحتى بالنسبة لرب الأسرة فإن ارتفاع مستوى الدخل، وتحسن مستوى المعيشة ينعكس على طبيعة عمله، ويجعله أكثر قدرة على الإنتاج بكل أشكاله، فاستخدام وسيلة نقل على سبيل المثال يجعله أكثر قدرة على تنظيم الوقت واستثماره بشكل مميز، ويمكنه من تنظيم العمل، والاستعانة بآخرين يمكن أن يقدموا مشورتهم ومساعداتهم المادية والمعنوية الأمر الذي يساعد في زيادة إنتاجه ودخله في الوقت نفسه.
وبالمقابل، فإن انخفاض مستوى المعيشة يحرم أرباب الأسر من حاجات أساسية، تبعاً لمستوى انخفاض الدخل، وانخفاض مستوى المعيشة، ويجعلهم منهمكين بأعمال متعددة، قليلة المردود، متنوعة الأوجه، الأمر الذي يعيق رؤيتهم الحقيقية، ويمنعهم من التفكير النقدي الهادئ، ويفوت عليهم فرص كثيرة للنجاح في الحياة كانت ممكنة لو أن مستوى معيشتهم كان أفضل، ولو أن دخلوهم كانت أحسن.

كل ذلك معروف ولا يحتاج إلى أي جهد لتوضيحه وشرحه، ولكن المشكلة أن مستويات الدخل متباينة بدرجة كبيرة، كما أن مستويات المعيشة متدرجة بشكل واسع، ويصعب وصف مستوى معيشي معين، أو مستوى دخل بأنه جيد أو متوسط أو ضعيف على نحو اعتباطي ما لم يأتي هذا الوصف من باب المقارنة مع وضع معيشي آخر، أو مع مستوى دخل آخر، ولهذا لا يمكن تقرير حسن مستوى المعيشة أو سوئه إلا في ضوء مقارنته مع مستوى معيشي آخر في الحي الواحد، أو البلد الواحد، أو المجتمع الواحد.
وبالنظر إلى أن الأسر متباينة في خصائصها المهنية والاجتماعية والثقافية، وفي قدراتها فمن الطبيعي أن تأتي مستويات معيشتها، في كثير من الأحيان، مرتبطة بشروط خارجة عن إرادتها، مع الإشارة إلى أن بعض الأسر تستطيع من خلال تضافر أبنائها أن تحقق مزيدا من الدخل، الأمر الذي يساعدها في تحقيق مستوى معيشي أفضل، غير أن هذا التحسن غالباً ما يكون بقدر لا تستطيع تجاوزه، ولهذا في محكومة بشروط ليست من اختيارها، وقد يندفع رب الأسرة أو أحد أفرادها إلى ممارسة جهود كبيرة لتجاوز الحدود التي لم تستطع الأسرة تجاوزها، ولكن دون جدوى، وقد تترتب على ذلك آثار نفسية واجتماعية ضارة بالأسرة وبكل فرد من أفرادها، وتزداد هذه الخطورة عندما يصل جهد الأسرة للحصول على مزيد من الدخل حتى بالطرق غير المشروعة التي يعاقب عليها القانون، مما يودي بهم إلى متاهات السجون في كثير من الأحيان.


وبرغم ذلك فإن انخفاض مستوى المعيشة لا يعد العامل الأكثر تأثيراً في مستقبل الأسرة، فمستويات التحصيل الدراسي للأبناء في المدارس والمؤسسات التعليمية المختلفة لاختلف كثيراً بين الفقراء والأثرياء، وربما كان بين الفقراء أفضل، الأمر الذي يعني أن ارتفاع مستوى المعيشة يوفر شروطاً ظاهرية (شكلية) تساعد الأبناء على تحسين مستوى تحصيلهم الدراسي، غير أن العامل الحقيقي في تحسين مستوى التحصيل إنما يرتبط بالأبناء أنفسهم، وبقدراتهم العقلية والفكرية، وقدرتهم على الإبداع، وغير ذلك، بدلالة أن أعداداً كبيرة من الطلبة المتفوقين ليسوا من الأسرة ذات المستوى المعيشي المرتفع، إنما هي من الأسر ذات المستوى المعيشي المنخفض، ويضاف إلى ذلك أن مظاهر الانحراف والشطط وممارسة الأفعال التي يستهجنها المجتمع وينكرها إنما تأتي من أبناء ينتسبون إلى أسر ذات مستوى معيشي مرتفع نسبياً، مما يجعل ارتفاع مستوى المعيشة في كثير من الأحيان عاملاً أساسياً من عوامل الانحراف، كما هو الحال في ظاهر تعاطي المخدرات غالية الثمن مثلاً، حيث لا يقدم عليها أبناء الأسر الفقيرة لعدم قدرتهم على ذلك، إنما هي بين أبناء الأسر الثرية، ذات المعيشي المرتفع.

يستخلص من ذلك أن المستوى المعيشي بذاته لا يعد عاملاً من عوامل النجاح، ولا هو عاملاً من عوامل الانحراف، إنما يرتبط الأمر بالطبيعة الأخلاقية التي تربى عليها الفرد، فكم من أبناء تركوا دراستهم لضعف إمكاناتهم، ولكنهم استطاعوا بعد حين التكيف مع الظروف، وحققوا نجاحاً كبيراً، وظهرت على أيديهم الإبداعات والمخترعات العلمية التي أفادت أبناء البشر قاطبة، وكم من أبناء ولدوا في أسر ثرية، وبمستوى معيشي كبير، ولكن حياتهم انتهت إلى الانحراف وممارسة الأفعال التي يعاقب عليها القانون، وكم من أبناء أيضاً ولدوا في أسر فقرة وانتهوا إلى الانحراف أيضاً، وأقدموا على ممارسة الجريمة، إلى جانب أبناء ولدوا في أسر ثرية وحققوا أيضا نجاحاً كبيراً في حياتهم.

لا شك في تحسن مستوى المعيشة يساعد في تفجير الطاقات، ولكنه ليس العامل الأكثر أهمية، إنما يرتبط الأمر بالإنسان نفسه، وبقدراته على التفاعل مع الظروف المحيطة به، والتي قد يجعل منها، بفضل ما لديه من قدرة على الإبداع، عاملاً من عوامل قوته، أو يجعل منها، بما يوصف به من ضعف في شخصيته، عاملاً من عوامل فشله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق