التحولات المجتمعية والفساد الإداري والمالي

يعيش المجتمع العربي في الوقت الراهن مرحلة انتقال خطيرة قوامها الانتقال من الطابع الجمعي للحياة الاجتماعية إلى الطابع الفردي لهذه الحياة، وتكمن خطورتها في أن الفرد في النمط الأول يعيش حياته في ضوء معايير الجماعة وقيمها ومبادئها، فيسيطر عليه الشعور بأن استمرارية حياته والمحافظة على الخيرات التي يتنعم بها إنما هي رهن بروابطه مع الآخرين وتضافره معهم، ولهذا فهو يحتكم إلى قيمهم وأخلاقهم التي تصبح قيمه وأخلاقه أيضاً ويسعى للمحافظة عليها ويطالب غيره بالتأكيد عليها، لأن حياة الجماعة في هذه الحالة يمكن أن تتهدد بالخطر كلما خرج الأفراد عن العرف العام والأخلاق العامة، ولهذا كلما أقدم الفرد على مخالفة الجماعة ينظر إليه بازدراء وبسخرية، وقد يعاقب اجتماعيا من خلال مقاطعته والابتعاد عنه، وعدم التفاعل معه، ذلك أن الفرد الذي لايحترم الجماعة ولا يحافظ على حياتها إنما يهدد الآخرين ويعرضهم للخطر، ولا يستحق الاحترام والتقدير، ولا يستحق أن يعيش مع الجماعة، فالقواعد الأخلاقية والدينية والاجتماعية من شأنها أن تشد الناس إلى بعضهم بعضاً، ومن شأنها أن تجعل الأفراد متكاتفين ومترابطين.


          أما الحياة في النمط الثاني فهي مختلفة تماماَ، ذلك أن الحياة الفردية تحرر الأفراد من قيمهم الاجتماعية والدينية والأخلاقية، وتجعل لكل منهم مشروعه الخاص في حياته دون النظر إلى ما يمكن أن يمس الآخرين من ضرر وما يمكن أن يلحق بهم من آذى، عندئذ تصبح المصالح الشخصية والفردية هي الأساس في تعامل الفرد مع غيره، بصرف النظر عن أية قيم يمكن أن تمنعه من ممارسة ما يهدد غيره، وبالنظر إلى الأفراد غير معنيين في هذه الحالة بشرعية المصادر التي تقوم عليها ثرواتهم المالية، فهم غير معنيين أيضاً بشرعية المصادر التي تقوم عليها ثروات الآخرين، فالقيمة هنا للثروة والسلطة والنفوذ وليست للمبادئ والأخلاق، وسرعان ما تصبح مصدر تفاخر بينهم، أما القيم والمبادئ الدينية والأخلاقية فتصبح بعرف الكثيرين أشكال من اللاوعي، وعدم القدرة على الانسجام مع مقتضيات العصر.


ومن الطبيعي أن حياة الجماعة واستقرارها ومقاومتها للتحديات المحيطة بها أدعى إلى الاستقرار في ظل النمط الأول من الحياة على المدى البعيد، وأن حياة الجماعة مهددة بالانحلال والتفكك والانجراف مع الآخر في ظل النمط الثاني من الحياة، فيخدم الناس أعداءهم من حيث لا يدرون، ويشاركون في الحرب على بلدهم ومجتمعهم من حيث لا يعلمون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

وفي ضوء ذلك يمكن أن نفسر السبب الذي يجعل مظاهر الفساد هي في الوقت نفسه مظاهر تفاخر لأن الأفراد لا يجدون أنفسهم معنيين بمجتمعهم ودولتهم بقدر عنايتهم بمصالحهم الخاصة ومنافعهم الذاتية، مع اختلاف حجم ثرواتهم المالية، ومواقع نفوذهم في السلطة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق