الاختراق الثقافي: ماهيته ومؤشراته

تستحوذ المسألة الثقافية على اهتمام المفكرين والباحثين في المجتمع العربي لما لها من تأثير في بنية المجتمع وتماسكة وترابط مكوناته، ومن الملاحظ أن تزداد في الوقت تعابير "الاختراق الثقافي" و"التحديات الثقافية"، و"التحديات الثقافية"، للإشارة إلى المخاطر التي تحملها عمليات التواصل مع الآخر في ظل مظاهر العولمة التي جعلت العالم متقارب الأبعاد، على الرغم من اتساع الفواصل المكانية بين الشعوب، وبعد أن أخذت القوى الكبرى في العالم تسيطر على وسائل الاتصال الحديثة وتخترق المنظومات الاجتماعية والثقافية والحضارية المختلفة، حتى أنها أصبحت خارج السيطرة التي يمكن أن تمارسها الدول المختلفة ضمن حدودها المكانية، فلم تعد دولة في العالم، حتى أكثرها تقدماً قادرة على أن تحد من عمليات التواصل مع الشعوب الأخرى، ومن تأثير الثقافات التي تفد إليها عبر هذه الوسائل.


ومع استخدام وسائل الاتصال المتطورة على المستوى العالمي، أصبحت التأثيرات الثقافية أكثر خطورة، وخاصة بالنسبة إلى الدول الأقل تطوراً في استخدام التقانات الحديثة، ذلك أن قدرتها أقل في إيصال تراثها ومظاهر الحضارة فيها إلى الآخرين، مع أنها قد تكون أكثر غناً وتنوعاً، في الوقت الذي تستطيع فيه الدول الأكثر تقدماً إيصال تراثها ومظاهر حضارتها إلى المجتمعات الأخرى، وتستطيع أن تسهم في بناء رأي عام مساعد لها في حروبها ضد الآخرين، الأمر الذي يسوّغ تزايد الإحساس بالمخاطر الثقافية التي تهدد المجتمعات الأقل تطوراً، والتي تعد الدول العربية جزءاً أساسيا منها.

ويراد من مفهوم "الاختراق الثقافي" أو الغزو الثقافي، أو "التأثير الثقافي" أن عناصر عديدة من البنى الثقافية لمجتمع ما تنتقل إلى مجتمع آخر عبر وسائل الاتصال المتنوعة، المباشرة منها وغير المباشرة، وتصبح واحدة جزءاً من المعايير التي يعتمدها أبناء المجتمع الذي وفدت إليه هذه العناصر في تقييمهم للأشياء والعلاقات والروابط والأدوار الاجتماعية، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان المجتمع، الأقل تطوراً، قدرا كبيراً من خصوصياته الثقافية والحضارية، ويجعل إمكانية السيطرة الاقتصادية والعسكرية أكثر سهولة، وأيسر مما لو استطاع أن يحمي أفراده من ذلك الاختراق، وبالقدر الذي يزداد فيه التأكيد على مخاطر الغزو الثقافي أو الاختراق الثقافي، يزداد أيضاً التأكيد على ضرورة العمل لمجابهة هذا الاختراق والعمل على مقاومته والحد من انتشاره، لما يترتب عليه من أخطار تمس المجتمع برمته.


أ‌.              المثقفون والاختراق الثقافي:




المشكلة أن الاختراق الذي يحذر منه المثقفون والسياسيون لا يحدث بمعزل عنهم، فمن خلالهم تتم أوسع عمليات التواصل مع الآخر، ومن خلالهم تنتقل الأفكار والآراء، وقد يكون بعض هؤلاء أكثر المدافعين عن أفكار ورؤى وافدة تعد من حيث النتيجة شكلاً من أشكال الغزو، وشكلاً من أشكال الاختراق، الذي ليس هو، من حيث النتيجة، إلا أنماط سلوكية جديدة وفدت إلى المجتمع وانتشرت فيه وتجد من يدافع عنها بقوة إلى الحد التي يمكن أن تصبح فيه طبيعية تماماً، على الرغم من أنها غريبة عن المجتمع، ولا تتصل بثقافته وحضارته على نحو من الأنحاء، وفي ذلك تكمن خطورة الغزو الثقافي الذي يمنح الأنماط السلوكية الجديدة طابعاً وطنياً ويجعل منها معياراً من معايير التقدم الاجتماعي، في الوقت الذي يحد من انتشار الأنماط السلوكية المستمدة من التراث الثقافي للأمة، ويجعل منها معياراً من معايير التخلف، فالتمييز بين ما هو مستمد من التراث الثقافي للأمة، وما هو وافد إليها يصبح صعباً للغاية حتى بالنسبة إلى المثقف والسياسي.
ومن مظاهر المشكلة أيضاً أن الاختراق الثقافي لم يعد يمس الأنماط السلوكية فحسب، إنما أصبح يمس معايير الحكم على هذه الأنماط أيضاً، فالحكم على صلاحية الأنماط السلوكية المستمدة من العادات والتقاليد الاجتماعية السائدة في المجتمع العربي أصبح مبنياً على معايير الثقافة الوافدة نفسها، ومن الطبيعي أن تندرج مجموعة واسعة من الأنماط السلوكية التقليدية في عداد مظاهر التخلف، لا لأنها كذلك بالفعل إنما لكونها لا تتوافق مع الوافد من جهة، كما أن الحكم عليها جاء من ثقافة أخرى، لا تأخذ بالاعتبار السياقات الاجتماعية والثقافية لهذه الأنماط إنما تحكم عليها بذاتها، وفي ذلك مكمن الخطر الذي يصف الاختراق الثقافي، فقد يصبح المثقف منغمساً في الثقافة الغربية، ومن أشد المدافعين عنها، ويقف على الطرف النقيض من التراث الثقافي للمجتمع، وكل ذلك تحت شعار محاربة الغزو الثقافي، ومقاومة الاختراق الثقافي.
وعلى طرف آخر، تنتشر مجموعة أخرى من المثقفين الذين يجعلون قيمة الأنماط السلوكية في ذاتها، ولكن بطريقة أخرى مختلفة تماماً عن سابقيهم، ذلك أن كل ما لا يتطابق مع تصوراتهم لمجتمع نموذجي، هو اختراق للثقافة والمجتمع، وكل ما من شأنه أن يساعد أفراد المجتمع على التكيف مع مستجدات العصر، ويحقق أفضل استثمار للخيرات لصالح الإنسان يعد اختراقاً إذا لم يوافق صورة المجتمع النموذجية التي سبقت الإشارة إليها، وتمتزج في هذه الصورة معايير مستمدة من العادات والتقاليد الاجتماعية والعشائرية تارة، وجملة من المعايير المستمدة من الفهم المتداول للشريعة الإسلامية تارة أخرى.
وتزداد خطورة الاختراق الثقافي عندما تأخذ مؤسسات ثقافية عربية بتسويق مجموعة من الأفكار والآراء وبرمجيات تعليمية تنتجها جهات معروفة بعدوانها المستمر على الأرض العربية، فقد كشفت وثيقة لوزارة الداخلية في المملكة العربية السعودية عن محاولة مؤسسات عربية مدعومة من جهات مشبوهة اختراق المؤسسات التعليمية في السعودية من خلال برمجيات ومنح دراسية أمريكية وتأسيس مجلة إلكترونية مدعومة من قبل تلك الجهات المشبوهة، وحددت وزارة الداخلية في خطابها لوزارة التربية والتعليم أسماء هذه المؤسسات المتورطة مع الجهات المشبوهة. كما طلبت التحقق من نشاط تلك المؤسسات والإفادة عما يستجد من معلومات في هذا الشأن عبر جميع المشرفين والمشرفات التربويات، والتحذير من التعامل مع مثل هذه المؤسسات التي تدعو إلى إبرام عقود أو إنتاج برمجيات أو تأمينها مباشرة. وكشفت الوثيقة عن أساليب التحايل التي تلجأ إليها هذه المؤسسات المشبوهة، وتتمثل في توزيع بعض العناوين المترجمة من مؤسسات أمريكية تربوية على المدارس السعودية والسعي لترسية عقود إنتاج البرمجيات على مدارس المملكة. وقد تم تعميم الخطاب على جميـــع المسؤولين والمسؤولات عن التعليم (بنين وبنات) في مناطق السعودية كافة للتمشي بموجبه.(صحيفة الوطن، 26 أيلول، 2006).


كما يجد حسن حنفي أن الاختراق الثقافي يتم من خلال قوى اجتماعية داخلية، وبخاصة تلك التي تعد نفسها في عداد النخبة، أو الطبقة المتوسطة، فهذه الشريحة تعيش طوال تاريخها على مساندة الأجنبي، والتعالي على أهل البلاد من العمال والفلاحين والطبقات الدنيا بل والمتوسطة. تتكلم اللغات الأجنبية، الفرنسية والإنجليزية... ولا هم لها إلا الربح السريع عن طريق المضاربة في العقارات، والاتجار بالعملة الأجنبية في السوق السوداء، وتهريب الأموال وقروض البنوك بلا ضمانات، والرشوة والفساد كوسيلة للتحايل على القانون، وقيم الاستهلاك ومظاهر البذخ والترف في القصور الجديدة وعلى شواطئ البحار (حسن حنفي، الدستور الأردنية)
وغالباً ما تجد الجهات التي تأخذ على عاتقها تعميق عمليات التواصل مع الآخر ما يسوّغ مساراتها في دعوتها المستمرة لضرورة التحرر من القيود التي تحول دون عملية التطور، والتحرر من العقد النفسية والتاريخية والاجتماعية، ويجد أنصار هذا الرأي أنه لم يكن للغرب أن يأخذ بمسارات التطور إلا بعد أن حرر نفسه من القيود التي تحول دون انطلاقه.
وفي مثل هذه الظروف يصبح التعامل مع المستجدات الثقافية صعباً، بسبب تعدد المعايير التي يمكن استخدامها في الحكم على صلاحية أنماط السلوك التي يمكن أن تنتشر في المجتمع إلى درجة أصبح فيها الطابع الذاتي يغلب على هذه المعايير، لغياب الموضوعية المستقلة عن تجارب الفاعلين، الأمر الذي يفسر سعة التباين في أنماط السلوك، وتعدد أشكاله، إلى حد التناقض في المواقف والآراء والاتجاهات نحو مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية. وتشكل هذه الظروف عوامل أساسية تساعد في عملية الاختراق الثقافي وتيسر مظاهره.
ب.    حول مفهوم الثقافة والاختراق الثقافي: 
في ضوء هذه التصورات لا بد من الإشارة إلى مجموعة من المبادئ النظرية التي تمكن الباحث والمثقف من التمييز بين أنماط السلوك، وتسهم في التقليل من حجم البعد الذاتي في عملية التقييم، ومن ذلك:




·         إن مفهوم الثقافة واسع في معانيه واستخداماته، فهو مرتبط اشد الارتباط بـ:


o             القيم والاتجاهات والعقائد التي تتوارثها الشعوب، والتي تعد جزءاً أساسياً من تراثها الثقافي والحضاري، 


o         المفاهيم والتصورات التي تختزنها الأمة في وعيها حول طبيعة الأشياء ورؤاها للعالم والوجود والإنسان، وماهية هذا الأشياء وطبيعتها. 


o         أنماط السلوك الاجتماعي التي يمارسها الأفراد في علاقاتهم مع بعضهم بعضاً، وأشكال التنظيم الاجتماعي التي تحدد وجوه التفاعل بين الأفراد وتقيمها على مبدأ التوازن بين الحقوق والواجبات المتبادلة بينهم. 


o             العادات والتقاليد والقيم وغير ذلك من المعايير التي تسهم في ضبط السلوك الاجتماعي، وتحدد مساراته في المجتمع.


o         إن مفهوم الثقافة بهذا المعنى ينطوي على مخطط شامل للتنظيم الاجتماعي يوضح طبيعة الحقوق والواجبات المترتبة على كل فرد من أفراد المجتمع وفق معيارين أساسيين:


o         يتمثل الأول في النظر إلى أفراد المجتمع كافة على أنهم أعضاء في بنية التنظيم، ويساهمون في بنائه، وهم متساوون في القيمة الإنسانية، ولا يفاضل أحد غيره في هذا التقييم. فالصغير والكبير، والذكور والإناث، على اختلاف شرائحهم، ومواقعهم الاجتماعية متساوون في قيمتهم. وحقوقهم في الحياة، والعيش والكرامة، بالإضافة إلى حقوقهم في تلبية حاجاتهم بصورة متكافئة أيضاً. 


o         يتمثل المعيار الثاني في تباين المواقع الاجتماعي التي يشغلها الأفراد في بنية التنظيم، مما يجعل الحقوق والواجبات الاجتماعية المترتبة عليهم متباينة بحسب هذه المواقع. فالرجل والمرأة والأستاذ والطالب، والمنتج والمستهلك، والبائع والشاري، وكل الأفراد في الشرائح الاجتماعية المختلفة، بمستوياتها ومواقعها، لكل منهم حقوقه وواجباته التي توضحها الثقافة، وهي التي تضم مجموعة المعايير التي تحدد ما يجب على الفرد ممارسته في أي موقع من المواقع الاجتماعية التي يشغلها، كما أنها تحدد طبيعة الحقوق التي يتمتع بها. 


·      يعد تمثل الأفراد لثقافة المجتمع ولمعاييره الأخلاقية والاجتماعية الأساس التي تشاد عليه وحدة المجتمع وتماسك مكوناته. وبمقدار ما يتمثل الأفراد المعاني والدلالات الاجتماعية لكل سلوك في وعيهم بمقدار ما تتحقق وحدة الثقافة، ووحدة التنظيم، وبمقدار ما تتحدد أيضاً قوة المجتمع وقدرته على مقاومة الأخطار التي تهدده. فإذا ما تعرض المجتمع أو جزء منه لخطر أو مشكلة أو أزمة سرعان ما يتحسس الأفراد لهذا الخطر، تبعاً لدرجات تمثلهم معايير الثقافة، ووحدتها، وسرعان ما يجد كل منهم نفسه مدفوعاً للبحث عن واجباته التي يقتضيها الموقف، وبهذا المعنى تعد الثقافة بالفعل بمثابة الحصن المنيع الذي يدفع عن الأمة مجمل الأخطار التي تهددها كلاً أو جزءاً.


·      تعد الثقافة وفق هذا التصور بمثابة هوية الأمة التي تنتظم في ضوء معاييرها العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وتسهم في تكوين الأشكال الاجتماعية للتفاعل، فهي التي تحدد طبيعة العلاقة بين الأستاذ والطالب، وبين الذكور والإناث، وبين الشاري والبائع، وبين مختلف أشكال التفاعل الاجتماعي. ولهذا فالثقافة ليست واقعاً معنوياً مستقلاً عن حياة الأفراد وطرق عيشهم، وأنماط سلوكهم. كما أن كل علاقة يقيمها أي فرد في بنية التنظيم إنما تأتي مع آخر يبادله التأثير، قد يكون أستاذاً أو طالباً، أو مديراً، أو موظفاً، أو مراجعاً، أو خادماً أو سيداً.. وهو مساوياً للذات في قيمته الإنسانية، ومختلفاً عنها في الموقع الاجتماعي، والدور الذي يؤديه. 


·      وإذا كان الاختراق الثقافي عملاً هادفاً إلى زعزعة الثقافة كمدخل لتذويب هويتها، وطمسها وسلبها مكوناتها فمن الطبيعي أن يستهدف هذا الاختراق أول ما يستهدف عنصراً أساسياً في بنية الثقافة، يتمثل في المعايير التي تحكم أنماط السلوك وتوضح طبيعة الحقوق والواجبات المترتبة على أشكال التفاعل الاجتماعي بين الأفراد، ومع هذا الاختراق تظهر معالم الغموض في منظومة الحقوق والواجبات المترتبة على الأفراد بوصفهم أعضاء في المجتمع. وتصبح المعايير في خلل كبير يؤدي إلى إضعاف الدور الذي تؤديه الثقافة في وحدة المجتمع وتكامل عناصره. وتصبح المعايير مبعثرة ومشتتة، هي أقرب ما تكون معايير جماعات وفرق متباينة في أسسها، متعددة في أغراضها.


ج.     مظاهر الاختراق الثقافي:


يمكن رصد مظاهر عديدة للاختراق الثقافي في ضوء التصورات السابقة، ويمكن أن تشكل تهديداً قوياً للمجتمع العربي بصورة عامة، وهي تسهم في تقويض دعائم الثقافة العربية، وإضعاف الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والحضارية للمجتمع العربي.
·      يتجلى المظهر الأول للاختراق الثقافي في غياب النظرة إلى الأفراد المكونين للمجتمع على أنهم أعضاء في بنية التنظيم، وعلى أنهم متساوون في قيمتهم الإنسانية، حيث تسود نظرة تعالي بعضهم على بعضهم الآخر، وكأن الأمة ملك لجزء منهم دون غيره، وكأن الآخر لا يرقى إلى مستوى الاحترام، ولا يرقى إلى مستوى التمتع بحقوقه الإنسانية بوصفه عضواً في المجتمع. فيطالب كل فرد من أفراد المجتمع بحقوقه، ويجد أن المجتمع معني بتوفير هذه الحقوق، أما الواجبات فغالباً ما يكون الإحساس بها ضعيفاً، وفي هذا السياق قد يلاحظ أن مدير العمل يستأثر لنفسه بحقوق الاستهلاك الفاخر في الوقت الذي لا يجد موظفيه جديرين إلا بالأجور التي يحصلون عليها، ويكفيهم الاستمرار في حياتهم. ويرى المستثمر أو التاجر أو رب العمل أن لهم فضلاً على عمالهم لأنهم يوافقون على تشغيلهم، مما يوجب على هؤلاء العمال الوفاء لهم حتى مع الفتات الذي يقدم ليهم.


·      يتجلى المظهر الثاني في السلوك الاستهلاكي الفاخر. حيث تصبح معايير التفاضل بين الناس مبنية على ما يستهلكون من لباس، وما يتغذون به من طعام، وما يتمتعون به من سياحة واصطياف واستجمام. ويبدو ذلك لدى الشرائح الاجتماعية المختلفة، فمعايير التفاضل والتفاخر بين الأفراد لم تعد فيما يقدمونه لغيرهم من خدمات، وما يؤدونه من واجبات، إنما بمقدار ما يحققونه من متع وملزات تشبع شهواتهم وتبعدهم عن إنسانيتهم. فالطالب الذي كان يفاخر زملاءه بتحصيله الدراسي يصبح مع اختراق الثقافة يفاخرهم بما يرتديه من لباس، وما يقوده من سيارة، والموظف لا يفاخر أقرانه بما يؤديه من عمل، إنما بما تمتع به في سهرته، وتلذذ به من أطايب الطعام. ولا يفاخر المدير بما حققه من إنجاز مهني على مستوى مؤسسته إنما بما يتمتع به من سلطة ونفوذ تحبر الآخرين على احترامه ولو بالقوة. إن التلذذ بالاستهلاك والتمتع به يصبح معياراً من معايير التفاضل الاجتماعي، وهو من أخطر مظاهر الاختراق التي تهدد بنية الثقافة.


·      يتجلى المظهر الثالث في أنماط السلوك الاجتماعي اليومية والتي تبدو فيها مظاهر الاستئثار والتحكم بما هو عام لما هو خاص، فالمواقع الاجتماعية والإدارية المختلفة تتيح للأفراد إمكانية التحكم ببعض الموارد بغية توظيفها لقضايا التنمية والتطوير وتلبية حاجات الناس، غير أن الاختراق الثقافي وتهشم بنية الثقافة في شخصية الفرد، وضعف المعايير الضابطة لسلوكه، وهيمنة ثقافة التعالي على الآخر في شخصيته، وانتشار ثقافة الاستهلاك الترفي الفاخر كل ذلك يدفعه إلى توظيف الموارد والإمكانات المخصصة لخدمة الناس وتلبية حاجاتهم بالشكل الذي تصبح فيه موظفة لحاجاته، وحاجات المقربين إليه. 


·      يتجلى المظهر الرابع في انشغال الأفراد بقضاياهم الذاتية، وغياب اهتمامهم بالقضايا العامة، ذلك أن انتشار ثقافة التعالي على الآخر، وثقافة الاستهلاك الترفي الفاخر، يجعل المخاطر التي تهدد أمن الدولة وأمن المجتمع غائبة تماماً عن الحس التي يتمتع به الناس، فانشغالهم بالاستهلاك والتعالي على غيرهم من أبناء المجتمع يبعدهم عن القضايا العامة، ويبعد إحساسهم عن الأخطار التي تهدد حياتهم، فتصبح أعباء التنمية والتطوير، ومجابه الأخطار في تصورات كل واحد من أفراد المجتمع إنما تقع على غيره من الناس وعلى الآخرين من الأفراد. والمشكلة الأكثر تعقيداً عندما يصبح ذلك هو الإحساس العام فينشغل كل بما يسعى إليه ويبقى الوطن وحيداً لا ينشغل به أحد، سوى القلة القليلة التي تجد نفسها معنية به، وتأخذ على عاتقها بعملية النهوض على الرغم من ضآلة عدد المشاركين.
·     يتجلى المظهر الخامس في صعوبة التمييز بين الأنماط السلوكية التي جاءت بفضل التفاعل الثقافي الحر مع الثقافات الأخرى، والأنماط السلوكية التي تأتي بفعل الاختراق، مما يجعل بعضهم يدعو إلى أنماط سلوكية تعكس قدراً كبيراً من الاختراق الثقافي، في الوقت الذي يعتقد فيه إن ما يمارسه إن هو شكل من أشكال الرقي الاجتماعي، وسرعان ما تصبح الثقافة مليئة بالأنماط السلوكية الشاذة والغريبة عنها، وهي برأي القائمين عليها أشكال من التطور والرقي الذي لا بد من تعزيزه وتأكيده في الحياة الاجتماعي للنهوض بالمجتمع وتطويره. وسرعان ما تأخذ مؤسسات عديدة بالسعي إلى تعزيز الأنماط السلوكية الغريبة عن الثقافة الأم ظناً منها أن تسهم في عمليه التطوير، وأنها تعمل من أجل التطوير ومحاربة التقاليد البالية التي لم تعد صالحة لمراحل التطور الراقية، وهي بذلك تنطق بلسان مخترقي الثقافة، وأعدائها الحقيقيين. وربما تستمد منهم مقومات عملها المادية والتقانية، عندئذ من الممكن أن تصبح المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية منتجة للاختراق الثقافي ومعززة له، خالقة بذلك تناقضات هائلة بين مكونات التنظيم الاجتماعي، وخلالاً كبيراً في المعايير الضابطة للسلوك ولأنماط الفعل. وفي ذلك يكمن الاختراق في أوج مظاهره.
إن اضطراب المعايير في بنية الثقافة، وعدم استقرارها على نمط ثابت يدفع الأفراد إلى ممارسة أنماط من السلوك التي تتباين معانيها ودلالاتها في المجتمع، فتبدو مرفوضة لدى جماعة من الناس، ومقبولة لدى جماعة أخرى، ويصعب أن تتوحد هذه المعاني لأي نمط سلوكي طالما أن المجتمع يسوده الاضطراب الثقافي.
وإذا كانت مشكلة الاختراق الثقافي تأخذ هذه الأشكال في المجتمعات المختلفة، فإن درجة الاختراق تختلف بين هذه المجتمعات على نحو واسع باختلاف تجاربها، فمنها ما هو مخترق بدرجة عالية، ومنها ما هو مخترق بدرجات أقل، و لا يوجد مجتمع إلا وفيه قدر من الاختراق الذي جاء بفعل الآخر وإرادته أحياناً، أو نتيجة التفاعل معه أحياناً أخرى. وإن الاختراق الثقافي وفق هذا التصور يتجسد في أنماط السلوك الاجتماعي التي يقدم على ممارستها أفراد المجتمع، كل منهم بحسب المواقع التي يشغلونها، وفي اتجاهاتهم نحو الأشياء والعالم، وفي قيمهم، ومعاييرهم. إن الاختراق الثقافي بهذا التصور ليس واقعاً افتراضياً تصعب معرفته، أو يصعب الإحساس به. إنما له مؤشرات عملية يمكن الاهتداء بها لتحليل درجته ومستواه في كل مجتمع. وإذا كانت الثقافة العربية قادرة بالفعل على حماية المجتمع من الاختراق الثقافي، فإننا بحاجة اليوم، بالفعل كما أكدت على ذلك الدراسة، إلى ضرورة حماية هذه الثقافة وتعزيزها في نفوس الأبناء على نحو واسع. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق