الإرشاد الاجتماعي والنفسي في المؤسسات التعليمية


تعد ظاهرة الانحراف بين الأحداث والشباب واحدة من أكثر مشكلات العصر انتشاراً في المجتمع العربي الراهن وأكثرها خطورة، لما تشكله من أساس لظهور مشكلات أخرى لا تقل عنها خطورة تتمثل في انتشار تعاطي المخدرات والجرائم الأخلاقية والانحرافات الفكرية والعقائدية، وغالباً ما تترتب على معالجتها والحد من انتشارها جهود كبيرة وتكاليف عالية تسهم في امتصاص قدر كبير من الطاقات البشرية والمادية والتقانية التي يمكن توظيفها لقضايا التنمية وزيادة الإنتاج وتحسين المستوى الاقتصادي للسكان.

وعلى قدر ما يلاحظ من تزايد مشكلات الانحراف بين الأحداث والشباب، على قدر ما تأتي أهمية تطوير نظم الارشاد الاجتماعي والنفسي والتربوي في المؤسسات التعليمية، إلى جانب الإرشاد الديني، لما يمكن أن يؤديه ذلك من دور فاعل في الكشف عن الحاجات الأساسية للأبناء ويعمل على توجيهها التوجيه العلمي الصحيح الذي يضمن استقامتهم ويوفر لهم ظروف تنشئة اجتماعية سليمة، غير أن فعالية الإرشاد رهن بتكامل جوانبه النفسية والاجتماعية.

والإرشاد النفسي الاجتماعي عنصر أساسي من عناصر عملية التأهيل الاجتماعي للفرد، وهي العملية التي تهدف إلى إعداد الإنسان إعداداً ثقافياً وحضارياً بالشكل الذي يعزز ارتباطه بمجتمعه الذي نشأ فيه ويجعله جزءاً لا يتجزأ منه في أحاسيسه ومشاعره وعواطفه. وتختلف عملية التأهيل الاجتماعي عن عملية التنشئة الاجتماعية في كونها عملية إرادية تسعى إلى إنجازها الأسرة والمدرسة والمؤسسات الفاعلة في المجتمع كالمنظمات والاتحادات والأحزاب وغيرها. أما عملية التنشئة فتشمل مجموعة العوامل المؤثرة في تكوين الإنسان الإرادية منها وغير الإرادية، وكذلك العوامل الاجتماعية والثقافية التي يصعب حصرها. وقد تعتمد عمليات التأهيل الاجتماعي للفرد اتجاهات متنافرة، وأهداف متضاربة مما يجعل عملية التنشئة عملية غير متوازنة سرعان ما تجد آثارها في تكوين الشخصية بالشكل الذي لم يتوقعه أي من القوى الفاعلة في عملية التأهيل، ذلك أن الجهات المعنية بالتأهيل الاجتماعي لا تستطيع ضبط العوامل المؤثرة في تكوين الشخصية، وإن اجتهدت في ذلك كثيراً.

    وتستمد فلسفة الإرشاد الاجتماعي والنفسي عناصرها ومقوماتها من الرؤية الاجتماعية لتكوين الإنسان، ومن الأطر التحليلية المفسِّرة للفعل الإنساني، ذلك أن ما يميز أبناء البشر عن الكائنات الحية الأخرى هو قدرتهم على ممارسة الفعل الذي يستطيعون من خلاله تحقيق عملية التواصل مع الآخر، ويستطيعون من خلاله تكوين الجماعات الإنسانية ذات الأشكال المتعددة والمتباينة التي يصعب حصرها وتحديدها، فالإنسان كائن اجتماعي بطبيعته، وتستحيل عمليه نموه بمعزل عن البناء الاجتماعي ونظمه.

إن التحليل الاجتماعي للسلوك الإنساني يسهم في توضيح مجموعة من القضايا الأساسية والعوامل المتعلقة بتكوين الفرد اجتماعياً وأسس تأقلمه مع النظم الثقافية المحيطة به، وإذا كانت عملية الإرشاد النفسي معني بتحليل أسس الصحة النفسية للفرد والبحث في مقوماتها حتى تتاح له إمكانية ممارسة الفعل الاجتماعي وتحقيق عملية التواصل مع الآخر، فإن الإرشاد الاجتماعي معني بوضع ذلك الفعل في سياقه الثقافي والحضاري، ومعني بجعل عملية التواصل ذات بعد اجتماعي في حدوده الزمانية والمكانية، وفي ذلك تكمن الفروق بين عمليتي الإرشاد النفسي والإرشاد الاجتماعي، وإن اشتركتا في موضوعات تتصل بعلاقة الفرد مع المحيط غير أنهما متباينتان في الأطر الفكرية والنظرية المفسّرة لعملية التأهيل الاجتماعي.

وتترتب على اختلاف الإرشاد الاجتماعي عن الإرشاد النفسي ضرورة أن تعد نتائج أبحاث كل منهما متممة لنتائج بحوث الميدان الآخر، مما يجعل المرشدين الاجتماعيين يأخذون النتائج المستخلصة من بحوث الإرشاد النفسي بوصفها مسلمات علمية يعتمد عليها في الإرشاد الاجتماعي، بينما يأخذ المرشد النفسي نتائج بحوث الإرشاد الاجتماعي كمسلمات أيضاً، وعندما يتطرق أي منهما لمعالجة نتائج البحوث الأخرى بمعزل عن الرؤية التكاملية فإنه يفقد قدراً كبيراً من مصداقيته العلمية، ويفقد قدراً كبيراً من احتمالات نجاحه.

وغالباً ما يؤدي الفصل بين المجالين وتجاهل كل منهما الآخر إلى عقم عملية الإرشاد بكليتها، ذلك أن البحث في الصحة النفسية للفرد، وفي أي من فئات الأعمار التي يعيشها غير ممكن من الناحية العلمية والعملية بمعزل عن السياق الاجتماعي والثقافي والحضاري التي يعيشها، كما أن العمل على تعزيز ارتباط الفرد بجماعته، وتأكيد البعد الاجتماعي في شخصيته بمعزل عن صحته النفسية، وبمعزل عن قدراته الذاتية هو ضرب من المحال، ولهذا فإن عملية الإرشاد عملية متكاملة، ويصعب جعلها ذات طابع نفسي، أو ذات طابع اجتماعي إرضاء لأصحاب هذا الرأي أو ذاك.

في الحديث النبوي الشريف "يولد المولود على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه" ما ينطوي على أن عملية التكوين الاجتماعي للفرد قائمة على اعتبارين أساسيين هما الفطرة، والمجتمع، أما الفطرة فغالباً ما يعبر عنها في الدراسات النفسية بأنها مجموعة من الاستعدادات والميول التي تجعل أبناء البشر قادرين على التعلم واكتساب المهارات. وهو الأمر الذي يميز بين البشر عن سائر الحيوانات التي تملك غرائز تعرف من خلالها كيف تبحث عن غذائها وشرابها، وهي غير قابلة للتعلم، أو التطور، ولهذا فإن الطرق التي يمارسها الحيوان لتلبية حاجاته تبقى على حالها طيلة حياته، فلا تعرف الحيوانات كيف تنمي مهاراتها، ولا تملك في الأساس القدرة على هذه المهارات لأنها مبنية على الغريزة.

ولما كانت حياة الإنسان مبنية على التعلم، فإنه من الطبيعي أنه لا يستطيع أن يتعلم شيئاً عاماً، بل يتعلم الأشياء المرافقة له في حياته، وهي رهن بظروف اجتماعية وثقافية وحضارية محددة، ويصعب على المرء أن ينمي مواهبه وقدراته بمعزل عن البيئة الاجتماعية التي تحيط به، ويصعب، بل من المستحيل أن يظهر شخص منعزل عن الثقافة أو الحضارة.

وإذا كانت عملية الإرشاد النفسي معنية أكثر بالبحث عن أشكال الفطرة التي يتصف بها الأفراد من حيث أشكالها، واستعداداتها، وكيفية إنمائها بالشكل الذي يجعل الفرد قادراً على ممارسة الفعل، فإن الإرشاد الاجتماعي معني بأن يضع الفطرة (أي مجموعة الاستعدادات والميول..) في سياقها الاجتماعي والثقافي، ومالم يتحقق ذلك بالفعل فإن عملية الإرشاد تبقى مشوهة، ويمكن أن تؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها.

لقد أشار علماء النفس منذ فترة ليست بالقصيرة إلى أن البعد الطبيعي في الإنسان هو مصدر شعوره بالحاجات الأساسية والطبيعية التي يتطلع إليها الأفراد، كالحاجة إلى الطعام والشراب والغذاء وتلبية الحاجات الجنسية وغيرها، ويشترك الإنسان مع الحيوانات الأخرى في هذا البعد. غير أن العلماء أشاروا أيضاً إلى البعد النفسي المتعلق بشخصية الفرد الفاعل، ويتعلق ببنية الشخصية بما تتصف به من سمات وخصائص تميزها عن الحيوان، وتشمل مكونات هذا البعد الأبعاد النفسية في الشخصية كالإدراك والإحساس والشعور بالتمايز، والتذكر، والاستيعاب، وما ينجم عن هذه السمات من قدرات في التحليل والتفكير والنقد وغيرها. وتجعل هذه الصفات الإنسان أقدر على تلبية حاجاته من سائر الكائنات الحيوانية الأخرى لما يتصف به من قدرة على التنظيم، وترتيب الأشياء بالشكل الذي يجعلها تلبي حاجاته تبعاً لما يراه من أولويات وضرورات. وبالنظر إلى الإنسان يملك صفة التفكير والاستيعاب والتذكر فهو ينمي أهدافاً وطموحات وغايات يسعى إليها، ويمكن أن ينظم شروط بحثه عن حاجاته وطرق تلبيته لها.

وبالنظر إلى أن السعي للحصول على الحاجات وتلبيتها يؤدي إلى التضارب بين الساعين إليها، وبخاصة مع تفاوت قدراتهم في الحصول عليها، فقد أخذ الإنسان منذ القديم بتطوير نظم للعلاقات الاجتماعية يمكن أن تقلل من حدة التضارب بين أفراد الجنس البشري، وتجعل أنشطتهم متكاملة بين بعضها بعضاً، وسرعان ما أصبحت هذه القواعد عاملاً أساسياً من العوامل التي تعزز البعد الإنساني والاجتماعي في شخصية الفرد، وهي التي تشكل المكوّن الثالث من مكونات الشخصية، وهي التي تجعل من الإنسان نوعاً مختلفاً عن الكائنات الحيوانية الأخرى. وبمقدار ضعف البعد الإنساني والاجتماعي في شخصية الفرد بمقدار ما يصبح قريباً من الكائنات الحيوانية الأخرى، وبمقدار قوة البعد الثقافي والحضاري يأتي اختلاف الإنسان وتميزه عن الحيوان.

وفي ذلك تكمن أهمية عملية التأهيل الاجتماعي للفرد على أساس مجموعة القيم الثقافية والحضارية، التي استقر عليها المجتمع البشري، ذلك أن تمثل الأفراد للبعد الإنساني في شخصياتهم غالباً ما يأتي متفاوتاً، فتزداد مظاهر الصراع والتنافس والاستئثار والتحكم التي يعرفها أبناء البشر منذ آلاف السنين، ويبدو أن التطور التقاني والمادي الذي يشهده العالم في الوقت الراهن لم يقترن بالتطور الأخلاقي والإنساني، مما يجعل هذا التطور أكثر خطورة على الإنسان.

وتبعاً لهذا التصور فإن عملية التأهيل الاجتماعي للفرد إنما تقوم على دعامتين أساسيتين، تتمثل الأولى في القاعدة المعرفية والبعد النفسي في بناء الشخصية، والتي تهدف إلى تكوين المعارف الإنسانية التي تساعد على تكيف الإنسان مع البيئة المحيطة به وتسهم في توفير الشروط المناسبة له لممارسة السلوك والأشكال المختلفة من الفعل. وتتمثل الثانية في القاعدة الأخلاقية والاجتماعية التي تضمن اتجاهات الفعل ومساراته بالشكل الذي تتحقق من خلاله عمليات التكافل والتضافر الاجتماعيين. وفي هذه القاعدة الضوابط التي تجعل الفعل الاجتماعي للفرد منسجماً مع وحدة التنظيم الاجتماعي ومحققا لشروط تكاملها. وبذلك فإن عملية التأهيل الاجتماعي إنما تكمن في مقدار كمال المعرفة الإنسانية وسلامة الأخلاق. وبمقدار ما يؤدي ضمور المعرفة وعدم اكتسابها إلى عجز الإنسان عن عملية التكيف، وعدم قدرته على تطوير ذاته، فإن سلامة الأخلاق تجعل لهذا التطور معنى اجتماعياً، ويتحقق من خلالها التطور الخلاق، وبغياب الأخلاق يصبح أفراد المجتمع أكثر عرضة للصراعات بينهم، ويصبح المجتمع أكثر عرضة للتفسخ والفساد.

إن النجاح الذي يحققه الطبيب المتميز بخبرته وعلمه يسهم إسهاماً عظيماً في تطوير مجتمعه، وبناء وطنه، ولكنه يصبح أكثر خطورة على هذا المجتمع عندما تحرره شهواته من إنسانيته، وعندما يضعف تكوين البعد الاجتماعي في شخصيته. وينطبق الأمر بدرجات متفاوتة على القاضي الذي يؤهله المجتمع لتحقيق العدالة بين أفراد المجتمع وإذ به يصبح منتجاً لمظاهر الظلم عندما يغيب البعد الاجتماعي في شخصيته، ورجل الشرطة الذي تؤهله الدولة لمكافحة الجريمة وإذ به يصبح منتجاً لها عندما تغيب القيم الأخلاقية والإنسانية الضابطة لسلوكه، وكذلك الحال المهندس والأستاذ الجامعي والعسكري والمرشد الاجتماعي وغيرهم.

وباختصار تعد عملية الإرشاد النفسي والاجتماعي عنصراً أساسياً من عناصر عملية التأهيل الاجتماعي التي يراد منها إعداد الإنسان في بعديه المعرفي والاجتماعي الأخلاقي، وإذا كانت المؤسسات التعليمية معنية بذلك في مراحل التعليم المختلفة فإن عملية الإرشاد النفسي والاجتماعي وفق هذا التصور تعد عنصراً أساسياً من عناصر هذه العملية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق